سمر المقرن
هذه الأيام الرمضانية التي يتكاثر فيها أكل «الكنافة». وعلى ما يبدو مع الحجر المنزلي فكرت في أن أبحث عن تاريخها، فأنا يهمني جدًّا توثيق بعض أنواع الأطعمة، وخصوصًا بعد أن تكتشف سرقة بعض الشعوب لها، تمامًا كما حدث من سطو تعرضت له لأطعمة اليونانية كـ«المسقعة» و«حلى اللقيمات»، وغيرهما.
المهم أنني بدأت البحث عن «الكنافة» فوجدت طرائف جميلة، تتعلق بتلك المعشوقة التي يتلذذ بصوانيها وأيامها الكثيرون، بينما هناك مَن عانى من صدها وحرمانها، بل هناك مَن نفى عن نفسه تهمة خيانتها مع القطائف من شعراء آخرين. وجدت أن أصل كلمة «كنافة» مشتقة من كنف، وتعني الإحاطة. وهي طبق رئيسي على مائدة شهر رمضان في كثير من البلدان العربية، أبرزها بلاد الشام ومصر وفلسطين. وقد تناولت كتب التاريخ نشأة الكنافة في روايتين، الأولى: تُنسب الكنافة لبلاد الشام إبان حكم معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية الذي اشتكى لطبيبه الجوع والعطش في نهار رمضان فصنعها خصيصًا له؛ فأطلق عليها كنافة معاوية. ورواية أخرى تذكر أنها صنعت خصيصًا لسليمان بن عبد الملك بن مروان إبان الحكم الأموي، وأن جاريته هي أشهر مَن كان يعدها له. ورواية أخرى تقول إنها صُنعت بمصر قبل الفتح الإسلامي، وأن أهل القاهرة استقبلوا بها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي عند مجيئه لمصر.
وقد برع أهل نابلس في صنع الكنافة النابلسية. ومن الشعراء من لم يكتفِ بأكل الكنافة، بل أصبح عاشقًا متيمًا لها ولصوانيها وقطرها ولياليها، وأعلن إخلاصه الأبدي للمعشوقة، مثل الشاعر أبي الحسين يحيى الجزار، وهو أحد شعراء العصر المملوكي بمصر؛ فلقد أحب الكنافة بكل أجهزة معدته، واعتبرها فتاة أحلامه، وأنشد فيها نافيًا عن نفسه تهمة خيانتها مع قرينتها «القطائف» قائلاً:
ومالي أرى وجه الكنافة مغضبا
ولولا رضاها لم أرد رمضانها
عجبت لها في هجرها كيف أظهرت
على جفاء صد عني جفانها
ترى اتهمتني بالقطائف فاغتدت
تصد اعتقادًا أن قلبي خانها
ومذ قاطعتني ما سمعت كلامها
لأن لساني لم يخاطب لسانها
وظل أبو الحسن وفيًّا للكنافة حتى آخر نبض في عمره. وفي أواخر أيامه عندما حرمه الطبيب منها راح يبكي لياليها قائلاً:
أغر الحسان وأنشد سقى الكنافة
بالقطر وجاد عليها شكرا دائم الدر
وتبًّا لأيام المخلل إنها
تمر بلا نفع وتحسب من عمري
ولم يكن الجزار فقط عاشق الكنافة الأوحد؛ فالإمام البوصيري حزن يومًا عندما لم تقدَّم له الكنافة في إحدى دعوات الإفطار بشهر رمضان، وأنشد:
ما أكلنا في ذا الزمان كنافة
آه.. وأبعدها على مسافة
قال قوم إن العماد كريم
قلت هذا عندي حديث خرافة