د.فوزية أبو خالد
1
مع أن وقتي في الحجر، حمداً لله, مشحون بالأطفال والتعليم عن بُعد والقراءة وأشغال البيت من تنظيف وتلميع وغسل وطبخ ومتابعة شبه إدمانية لتويتر والصحف مع صحبة حلوة لا تخلو من الحنان الجارف حيناً ومشاحنات الحب الحمائي حيناً آخر، فإن بلوغ الشهر الفضيل بما أزاح رمضان فيه عن ظهورنا من أثقال معيشية قد شكل لي حافزاً على مزيد من التأمل والتفكير في وقع الجائحة على واقعنا.
تكشف كورونا عن تعدد رهيب وتنوع مدهش في فكر ومواقف وأوضاع البشر عبر العالم في مواجهتها.
نجد هذا التعدد والتنوع على عدة مستويات.
وربما أكتفي هنا بالتنويه عن مستويين من ذلك وهما مستوى القراءة التفسيرية لها ومستوى التجربة المعاشة إبان الجائحة، وإن كنتُ سأختصر في المستوى الأول وأسهب في الثاني نظراً لأن القراءات التفسيرية مكتوبة عبر كل شاشات ومنافذ القراءة الورقية والإلكترونية بينما الأخرى تعبر عن عدستي الذاتية وإن حاولت الحياد في النظر لواقع الجائحة من خلال ملاحظاتي الخاصة وتفاعلي الشخصي وتعايشي الحياتي مع ذلك الواقع. غير أن كتابتي عن المستويين أعلاه ستكون «بتقليد» أسلوب الإخراج السينمائي لروائع سينما الستينات والسبعينات كفيلم د.زيكاغو على سبيل المثال الذي يبدأ من مشهد النهاية متحركاً نحو نقطة البداية أو النقطة الأولى في قصة الفلم.
2
- قد يسبب الحجر الوقائي من كوفيد 19 للبعض منا حالة من السأم أو نوع ثقيل من الملل.
- قد يوقع الحجر الوقائي البعض منا في براثن تجربة المعتقل.
- قد يجد بعض آخر منا في تجربة الحجر الوقائي شكلاً من أشكال الحرية من الآخرين.
- هناك من يملك من الرومانسية والنرجسية وقوة البأس وخاصة من الكاتبات والكُتاب أن يتغزل بالعزلة أو يتباهى بيومياتها كالكاتبة الفرنسية المغربية ليلى سلماني باللموند، والكاتب الأمريكي بن سيكسميث. فيرى فيها مثل هؤلاء نوعاً من المساواة تجعل الجميع شركاء في «عزلة الكتابة المعتادة» بجمالياتها الوحشية التي لا غنى لأي من أصحاب القلم عنها لإنجاز عملهم كعزلة الملكات التي أفرد لها الشاعر قاسم حداد ديواناً كاملاً قبل ما يقارب ربع قرن. وإن كانت عزلة الملكات والكُتاب أيضاً عزلة إرادية واختيارية عكس عزلة الكورونا والتي لا تشبهها مع فارق المكان إلا عزلة الزنازين.
- هناك من وجد في ظرف العزلة الوقائية فرصة لقراءة الذات، محاسبتها، تعنيفها أو الالتفات لها وتعويضها عن البعد الطويل عنها أو التعرف عليها واكتشاف مجاهلها أو إعادة تربيتها.
- هناك من وجد في المنتبذ الوقائي مخبأ للخمول ووكراً للأكل والشرب الشره.
- وعلى العكس من ذلك هناك من وجد فيها وقتاً لاكتساب مشتهى مؤجل من لياقة الجسد والعقل بتدريبات كافية بقسوتها أن تخفف قسوة الحجر.
- هناك من استعاد رغبات كان يجري التغافل عنها على سلم الركض اليومي لحياة ما قبل الجائحة، فقرأ كتباً مهملة، اكتشف كتباً جديدة، سمع موسيقى كانت منسية في الذاكرة أو موسيقى استجدت ولم يكن من وقت للتعرف عليها، اطلع على حوارات سبق وفاتته، شاهد برامج وأفلام طالما طال قديمها وجديدها الغبار.
- هناك من أعاد النظر في علاقته بخالقه وبعباداته فقرأ قرآنا وفقها وأحاديث، صار حريصاً على تلاوة ورد الصباح والمساء بتبتل وعلى الصلاة بخشوع وعلى تحصين نفسه والانخراط في نجوى سرية دامعة مع الواحد الأحد.
- هناك من توجه لهوايات كان يقاوم إغراءها بمشاغل روتينية لا تنتهي، لعب لعباً حراً، قام بتمارين يوجا أو تمارين رياضية أو استعاد لذة الطبخ والأكل البيتي ومتعة تنظيف البيت وترتيب السرير بالاعتماد على النفس.
- هناك من عاد للسكن في بيته بعد أن كان البيت مجرد غرفة عابرة في فندق أو محطة قصيرة في تنقلات سريعة بين الكمائن.
3
لا يخلو الموقف المعاش بطبيعة الحال ممن وجد في الحجر حرماناً من الأمكنة الأليفة.. المكتب, المدرسة, المسجد، المقهى، الشارع، الاستراحة, بيوت الأقرباء والأصدقاء والجيران، المولات, البر، البحر.. كما لا يخلو الأمر ممن وجد فيه حرماناً من طاقات الآخرين وشحناتهم الموجبة والسالبة معاً أو ممن افتقد فيه علاقات مقلقة لا تتحمل حرية البعد ولو كان مؤقتاً. وبالمثل هناك ممن جعله الحجر يعاني أشكالاً من الكبت العاطفي أو كبت نزعاته التسلطية خاصة مع قدرة «العمل عن بُعد» على تقليص سلطة فراعنة الوظائف وتقليم أظافر التنمر. دون أن تقلل تلك الاستثناءات من حجم جملة من «المكاسب الجانبية»، إن صح التعبير, التي خرجت من معطف الحجر أو كانت من مصاحبات عزلة المجتمع الوقائية. فقد منح الحجر الاستباقي الثقافة وعموماً المثقفين منابر حرة لمبادرات أدبية وحوارية عبر تطبيق برامج زووم والوبينار في لقاءات افتراضية بحضور يشكل أضعاف الأعداد المعتادة على أرض الواقع، بما لم يكن متاحاً وخاصة في مجتمعات تخلو عادة من الحراك المدني.
4
لكن رغم كل هذه الحرية غير المسبوقة على مستوى فردي وأسري وعام في امتلاك الوقت وفي سبل إدارته أو هدره فإن هناك أوجه معاشية أخرى أشد وطأة من شكوى الملل من الحجر الوقائي وأقل ترفاً من كيفية استثماره استثماراً إبداعياً منتجاً وأكثر قسوة من اتساع الوقت وضيق المكان بالمعنى الحرفي للكلمة.
هناك من فقدوا أعمالهم مؤقتاً أو إلى الأبد وهناك من تعطلت صحتهم مؤقتاً أو إلى الأبد وهناك من فقدوا أحبابهم مؤقتاً أو إلى الأبد.
- لا يمضي يوم هنا في أمريكا دون أن يهاتفني أصدقاء أو أسمع عن معارف فقدوا أعمالهم. فهذه صديقتي جابريلا أمريكية من أصول مكسيكية فقدت عملها كمساعدة معلم, أخرى تخبرني فقدان عملها في دار النشر الصغيرة التي كانت تعمل بها لسنوات، شوكليته مصففة الشعر الكولمبية الأمريكية التي أذهب إليها أحياناً فقدت عملها وشاركها ذلك الفقد طاقم العمل كافة, د.ناز مديرة مدرسة قرطبة لتعليم العربية بنيويورك تغلق أبواب مدرستها لبقية العام بسبب عدم القدرة المالية على تحمل تكاليف التعليم عن بُعد، معلمة صغيري محمد البيانو الألبانية الرشيقة نينت وزوجها العقاري الأمريكي (بروكر) يفقدان عملهما. هذا عدا عن الأرقام المليونية المتداولة لشريحة واسعة من مختلف المهن وخاصة المهن الدنيا في قطاع الخدمات ممن فقدوا أعمالهم, بما يحمله ذلك من تأثير اقتصادي عميق وخلخلة طبقية خاطفة لكنها مزلزلة للبنى الاجتماعية بالمجتمع الأمريكي والذي لابد أن النصيب العالمي منه لا يقل اتساعاً وعنفاً، إن لم يكن أبشع. هذا عدا التأثير الإنساني الأليم لمثل هذه الضربة الاقتصادية والزعزعة الاجتماعية المفاجئة والموجعة، الذي تسرب شيء حاد من رائحته الجارحة في بكاء شباب فارع أمام الكاميرات لدخولهم من الباب الواسع لعالم مشردي الشوارع، وتحول آخرين للاقتيات من «تحويشة العمر» الشحيحية أو اللجوء لموائد الجائحة المؤقتة على أرصفة المناطق النيويوركية المدقعة مثل جاميكا وبرونكس وهارلم.
- لا أفتح التلفزيون أو أدخل الفيسبوك إلا وتفوح رائحة الموت من مواقع قريبة وقارات بعيدة تُشظي روحي وتذرو نثارها بعيداً عني في عدة اتجاهات مجهولة مثل قبور ضحايا كورونا وهم يحرقون أو يطمرون في حفر جماعية أو فردية، ليس سهلاً اهتداء محبيهم إليها بعد انحسار الجائحة. وعلى فجيعة الموت أي كان شكله (حمانا الله من فواجعه) فكم تبدو حارقة ووحشية تجربة الفقد والرحيل في ظرف الوباء. فلوعة الفقد تعاش مرتين في وقت واحد، مرة بحرمان المعنيين من الوقوف بجانب موتاهم لحظة الوداع الأخيرة ومرة بضياع معالم تربتهم. لتكون اللوعة المشترك الأخير بينهم وبين أولئك الضحايا الذين ماتوا على غربتين غربة غرف الانتظار الأخيرة في معابر موحشة وغربة النهاية في مهاوي مجهولة دون جنازة أو مشيعين.
- وأنا أتجرع حصتي النهارية من الاكتئاب الكوروني أثناء متابعتي الصباحية لتقارير نيويورك عن مد وجزر الجائحة, لا أملك إلا مشاركة ذوي أولئك الذين تحولوا بشكل موجع إلى مجرد أرقام لأعداد كبيرة من قوائم الموتى اليومية على شاشة التلفزيون. الغريب أنه فيما تحاول المذيعة مهادنة الرعب بنوع من العرفان وهي تقرأ انخفاض عدد الراحلين إلى 300 بعد أن كان «الرقم» قد وصل إلى 900 حالة وفاة يومياً في مدينة نيويورك وحدها نجد كل من دي بلازيو وأندريه كومو يتصدران المشهد الميداني والإعلامي اليومي بمزيد من الكروت الصفراء في وجه أي تفاؤل مبكر أو استعجال لإدارة عجلة الاقتصاد خشية العودة إلى نقطة الذروة الوبائية من جديد.
- حين يأتي موعد حصتي الليلية من اكتئاب كورونا أجد نفسي مرة أخرى لا أستطيع من الأمر شيئاً غير كتابة تعزية خجولة على الفيسبوك لرفاق تلك الأرواح التي رحلت إلى خالقها متأثرة بجراح معركتها مع فيروس كوفيد 19 .
5
منذ الثالث من شهر آذار/ مارس يوم دخلت نيويورك ولم يكن عدد المصابين بفيروس كورونا في أمريكا كلها يزيد على 80 شخصاً إلى اليوم التاسع من آيار مايو وقد قارب عدد المصابين مليونين لم أخرج من شقتي الصغيرة المعلقة في إحدى ناطحات السحاب العتيقة إلا مرتين، إلى مستشفى كورنيل غير البعيدة عني في «عليا منهاتن» كما أترجم كلمة آبر منهاتن.
صباح السبت الساعة الحادية عشرة نادتني الشمس بعد أسبوع غائم فقررت أن أمشي بعكازين أو بالأحرى أطير بعدة أجنحة على جادة يورك. كان النهر الشرقي يمتد على يميني رائقاً وكأنه لم يسمع بالجائحة، كانت الأرصفة نظيفة على غير عادة أرصفة نيويورك الشهيرة بقذارتها المقززة, كان الشارع شبه خال إلا من مشاة قلة بأفواه مكممة وأرواح قلقة وأعمار تتراوح بين الشباب والغروب مثلي. وحين انعطفت على شارع 56 إلى الجادة الأولى وجدت صف الدرجات الأزرق كاملاً (سيتي بيك) مهجوراً، كما وجدت كل المتاجر الصغيرة المعتادة مغلقة، مطعم فلنتينو الإيطالي مغلق، المطعم المكسيكي والمطعم اليوناني مغلقان، محلات الخياطة والغسيل مغلقة، حتى معرض (بيد باث) و(تي جي ماكس) مغلقان، كانت صفة صالونات تجميل الأظافر والشعر المتجاورة كلها مغلقة.. شعرتُ بالالتباس فهل يا ترى تنعم فتيات هذه المحلات الآن ولأول مرة منذ زمن طويل بأيدي لا تحرقها حرارة الاستشوارات ولا تفوح منها رائحة أقدام البشر أو أنهن يتألمن في معزل رثة من الجوع والوحدة ورعب كورونا؟!
على إيقاع العكازين الذي كان يبدو لي كصوت خلخال في رجل غزال مسهوم في الكعب سرتُ في طريق خلا تقريباً من السيارات والمارة لدرجة أنه خيل لي أن الشجر والعصافير المدجنة لشدة ما تعايشت مع صخب نيويورك وزحمتها كانت تصدر أصواتاً مشحونة بالشجن قبل أن يفزعها ويفزعني صوت سيارة إسعاف كأنه كفيروس كورونا خرج من المجهول.
وأخذ على حين غرة في نهشنا بأسئلة صعبة عما قبل كوفيد 19 وعما بعده.
7
بقي أن أختم هذا المقال بما بدأتُ به وهو تنوع وتعدد القراءات التفسيرية والتحليلية لظاهرة فيروس كورونا:
- هناك قراءة الجائحة التي اعتمدت على المرجعية الدينية على تعددها، ولا أقصد هنا ذلك التوجه العقيدي في مواجهة الجائحة بالدعاء والابتهال وهذا يكاد يكون له مشترك روحي في العالم أجمع, ولكن المقصود تفسير الجائحة تفسيرات دينية مثل لماذا حدثت؟ وكيف حدثت؟ ومن تطال؟، وربطها بمحاقات أمم سابقة وبمعايير قيمية في الحساب والعقاب ومؤدياتهما من التخويف مع فصلها عن أي أطر معرفية أخرى وخاصة الإطار العلمي، بما لتلك القراءة من تأثير على كيفيات المعالجة بما فيها تلك التي تقترح معالجات شعبية اجتهادية لا تخلو من العشوائية والمخاطرة بحياة البشر.
- ظهرت أيضاً قراءة مخابراتية تحيل الجائحة إلى تفسيرات تعتمد نظرية المؤامرة ومشتقاتها من الشك والريبة والتخوين.
- هناك طيف من القراءة السياسية البرجماتية التي ترى في الجائحة حالة مواتية من حالات الاستقطاب والهيمنة لصالح هذا القطب السياسي أو ذاك مقابل التقزيم والتقسيم بمحاولة إعادة توزيع غير عادل آخر يمحي تحديات ما بعد الكولونية ويعتم على نقد المركزيات الدولية.
- وهناك القراءات الإعلامية التسطيحية في مجملها التي تعتمد هجيناً غير متجانس من التفسيرات الاستخفافية التي تحول الجائحة إلى سوق ليس إلا لترويج «التفاهة» واستبدال ثقافة الجائحة المطلوبة لمقاومتها في هذه اللحظة إلى التسلي بالجائحة.
- يضاف لما تقدم من القراءات التي ذكرناها على عجل تلك القراءة الأدبية الشاعرية التي ترى في الجائحة حالة من التطهير من الحروب والتلوث بأنواعه وترى فيها أملاً للتجدد وتخلق العالم من جديد بعوالم جديدة.