د. حسن بن فهد الهويمل
تختلف الأنساق الثقافية عند الأمم، باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأحوال.
والشعوب الواعية هي التي تلبس لكل حال لبوسها، تعرف الواقع، ومتطلباته، والذوات، وإمكانياتها.
أما الشعوب الغائبة، أو المغيّبة الوعي، فهي التي تهتاج، وهي فارغة من القوة: الحسية، والمعنوية، وتُخْرج رأسها لتتلقى الضربات الموجعة، التي تبدد أشياءها، وتجرّعها مرارات الذل، والهوان. حتى لا تكاد تسيغها، وكم من خطابات (براقشية) جنت على أهلها.
أفراد الأمة على مختلف مستوياتهم المعرفية، أوعية فارغة، تمتلئ بمعطيات التجارب، ومختلف الثقافات.
والإشكالية في عمليات الفرز. كل الأدمغة إما أن تكون فارغة، أو ممتلئة.
وقد يكون الفراغ - في بعض الأحوال - خير من الامتلاء، فما كل امتلاء يقود إلى نجاة.
قلت: إن التجربة، والوِجادة مصدرا الأنساق. وكل أمة تُوجِّهها أنساقها. ولهذا يحرص العقلاء الناصحون على تجويد أنساق أمَّتِهم الثقافية، لكيلا تضل الأمة بنخبها.
الثقافة هي الوِجادة. قطيع الأغنام تتجاوز بعض النباتات المضرة، وهي ترعى. وبعض الأناسي يأكلون الضار، والنافع، لا يرفع أحدهم رأسه، ولا يتبصر في أمره: {وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}.
قضاء الله نافذ، ولا ينفع الحذر إذا وقع القدر، ولكننا مطالبون بالتحري، والأخذ بالأسباب، فالإنسان عنده قدر من الحرية، والإرادة، والعقل. وهو حين يُقدم على الأمر يقدم عليه بوعي، وإصرار، وبصيرة. ومن ثم يسأل عما يفعل.
قد يغيب العقل، والتفكير لحظة نفاذ القضاء: {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُون}.
قلت: لكل زمان خطابه، واهتماماته، وأولوياته. وحتى اللغات تواكب الحال، وكم من نَقَدَةٍ لا يُقَدِّرون الأحوال، يُقَوِّمون الخطاب، واللغة بمقتضى حالهم، التي كانوا عليها، لا بمقتضى حال الخطاب، حال نفاذه.
لغة (ابن تيمية) رحمه الله -على سبيل المثال - لغة حرب، وضرب، وإقدام. والمتحفظون عليها يَنْزِعُونها من سياقها.
لقد عاش ذروة الصراع العسكري، والفكري. ومات في السِّجن ولغته لغة الميادين الحربية، والكر، والفر.
ولو جاءت على غير هذه الحدِّة، لكان من المخَذِّلين. ومع هذا ينتقد البعض لغته الحادة، التحريضية، المهيجة. لأنه نزعها من سياقها الحربي، وحاكمها من خلال سياقه الأمني، المؤسَّسي، ليسقط خطابه المعرفي السلفي.
(ابن تيمية) رحمه الله له خطاب حركي، وله خطاب معرفي سلفي. ولا يجوز تبني أي خطاب بحذافيره، لأن لكل زمان دولة، ورجالاً، وخطاباً. وتلك إشكالية الفراغ، والامتلاء.
أدمغة تظل مفخخة، لأنها لا تعي متطلبات المرحلة المعاشة، ولا تقيم وزناً لتفاوت الأحوال، ولا تعلم أن كل رواد الخطابات، والأحزاب، والاتجاهات بشر، يمرون بمراحل تتطلب منهم صيغاً مناسبة لأحوالهم.
ومن تبنى أي خطاب سلف بحذافيره، دون انتقاء، واتباعٍ لأحسنه فإنه معرض بلا شك للتشظي.
دعاة، ومصلحون، ومجددون مروا بِظروف لها مواصفاتها، فأعطوها ما يناسبها من الإقدام، والإحجام، وحققوا لأنفسهم، ولأمتهم الثبات، والاستقامة، والعلو.
وآخرون لم يكونوا على وعي بالمتغيِّرات، واختلاف الأحوال، جرُّوا على أمتهم الويل، والثبور، وعظائم الأمور.
المجدِّدون الذين بشَّر بهم من لا ينطق عن الهوى، يمتلكون القدرة على تفهم الأحوال، والتكيّف مع الإمكانيات، لأن الله جاء بهم، ووكل إليهم التجديد، وأعانهم عليه.
كتاب (زعماء الإصلاح) للمفكر العقلاني (أحمد أمين) أبان عن ظروف النشأة لكل مصلح، وكشف عن المناهج، والآليات.
هؤلاء الزعماء استطاعوا تنقية الأجواء، وتصفية النصوص، وتبصير المستهدفِين، وحملهم على مواجهة التغيير بالإمكانيات المتاحة، ومن ثم حقق كل واحد منهم ما جعله زعيماً، مصلحاً، ذا أثر في محيطه.
الحملات المغرضة التي اكتسحت (عالمنا العربي)، حاولت إفراغ الأدمغة من ثقافتها (العربية الإسلامية)، وملئها بالمستجد الفكري، والمدني الغربي، بماديته الصليبية الصهيونية.
هذه المحاولات التي تجسد (الغزو، والتآمر) أيقظت الهمم، وظهر جيل (الإحيائيين) الذين استعادوا التراث العربي، لمواجهة طوفان الاستغراب، وعاشت الأمة صراع الحضارات بأبشع صوره.
ولما كانت سنة التداول، والتدافع، من سنن الله الكونية، فقد غلبت الحضارة الغربية. وإن كانت هناك محاولات لاستعادة الأوعية، وإراقة ما فيها، وإعادة ملئها.
الصراع إكسير الحياة، وبدونه تذبل، ويذهب ريحها، والأشياء كلها نسبية، ليس هناك شر محض، وليس هناك خير محض، إلا ما يعضده الوحيان، بنص قطعي الدلالة، والثبوت.
الحضارة الغربية بماديتها، ومدنيتها مطلب إنساني، يجب أن نتعامل معها بتوازن يحفظ الروحانيات، والماديات.
ثم إن الحضارات المتعدِّدة الانتماء تكاملية، وهي في النهاية لبنات في قصر (الحضارة الإنسانية)، ومن تصور تعميم حضارته، وهيمنتها صادم الحقائق.
وأخطر شيء في الصراعات الحضارية (العنصرية الحضارية) التي جسّدها بأبشع صورها (فوكوياما) في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير).
لقد حاول الإفراغ التعسفي للأدمغة الإنسانية، وملئها بالتقديس، والتصنيم للإنسان الأمريكي. وهي محاولة يائسة، بائسة، تبعها المغفلون، المتذيلون.
ما نريده من الإفراغ، والملء تقديم رؤية إنسانية تحترم كل الخطابات، وتتفسح لها، وتعتمد الجهاد بالكلمة، مع الاحتفاظ بالخصوصيات، والمحققات، وهذا ما يتماشى مع التوجيه الكريم: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}.
ومع كل محاولات العقلاء، المجربين المقسطين، ستظل الحياة في عمليات إفراغ، وملء: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
فكل منتصر يود لو مَكَّن لنفسه بإفراغ الأدمغة، وغسلها، وملئها بما يكفل له البقاء، والهيمنة.