د.عبدالعزيز بن إبراهيم العُمري
بمناسبة انتشار فيروس كورونا هذه الجائحة التي عمّت العالم بلا استثناء، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع البلاء عنّا وعن بلادنا والمسلمين وعن عباده وخلقه أجمعين إنه وليّ ذلك والقادر عليه، تذكّرنا بنعمة عظيمة يجحدها الكثيرون ويتناسونها، وهي نعمة الصحة التي أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ)، فالصحة نعمة لا يشعر بها الكثيرون كما قال الحكماء (الصحة تاجٌ على رؤوس الأصحّاء، لا يراها إلا المرضى) وفي الحديث الشريف: (من أصبح منكم آمناً في سِرْبهِ معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها) وهذا يدل على أن الجسد المعافى نعمة لا يشعر بها الكثير من الناس.
في سبيل المحافظة على الصحة هناك مبادئ عامة طرحها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي تشكّل نظرة إسلامية شرعيّة للحفاظ على الصحة، من أهم هذه الأمور قضية الطهارة والنظافة، فالله سبحانه وتعالى أثنى على أهل قباء بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فالطهور شطر الإيمان كما ورد في الحديث النبوي، لذلك اعتنى الفقهاء بأبواب الطهارة وسموها (أبواب الطهارة) وداخلها الوضوء الذي كله تنظيف للجسد وتطهير للروح واعتنوا حيث قضايا نظافة الإنسان جسده وما يرتبط به من الاغتسال لكامل الجسد وغسل اليدين قبل الأكل وغيرها من أمور النظافة العامة التي تساعد الإنسان على المحافظة على صحته وهي من باب الوقاية من الدرجة الأولى قبل أن يُصاب الإنسان بأي مرض فهي من الوقاية، وكذلك الاعتدال في الأكل والشرب أيضاً من أسباب الوقاية من الأمراض، ولذلك النظافة الشخصية من أهم أسباب البُعد عن الأمراض، في مثل هذه الظروف التي نعيشها في جائحة كورونا، وهناك مبادئ خاصة رعتها الشريعة الإسلامية وهي النظرة الخاصة لمواطن الوباء والبعد عنها وتجنب المخالطة للمرض بأمراض مُعدية، فهناك كما روى البخاري ومسلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يُورد ممرض على مُصحّ) يعني إنسانا مريضا بوباء ما يدخل على أناس أصحّاء لينقل لهم هذا الوباء، كما ورد في حديث أخرجه مسلم (الطاعون آية الرجز ابتلى الله -عز وجل- به ناسا من عباده، فإذا سمعتهم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منها)، ولذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان في زيارة إلى الشام، وقبل أن يدخل الشام سمع بطاعون عمواس، والطاعون يعني الوباء عموماً، سواء كان كوليرا أو فيروسات أو غيرها أو أشياء أخرى، كلها تدخل في مسمى الطاعون، سمع بطاعون عمواس وأنه واقع بين المسلمين في بلاد الشام فتوقف، هل يرد عليهم ويدخل الشام أو يعود من أطراف بلاد العرب من نواحي دومة الجندل وما قاربها أم يرجع إلى المدينة فتردد في ذلك ولامه بعض من معه كيف تتوقف، وهذا قدر الله فإذا بعبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- يروي الحديث الذي نُقل لنا وهو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض قوم فلا تقدموا عليها ولا تخرجوا منها) فسُرّ عمر -رضوان الله عليه-بهذه الرواية فقال له بعض من معه: يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله، كما ورد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد) والمجذوم هو من يُصاب بوباء مُعدٍ معروف، والجذام يأكل أطراف القدمين وغيرها وهو مُعدٍ، وذلك فإن الأمر بالبُعد عنه حتى لا تنتقل العدوى من شخص إلى آخر، وروي أيضاً أن رجلاً مجذوماً من ثقيف قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان في إبله فأمره أن يرجع وألا يدخل وأخبره أنه قد بايعه ولا حاجة لأن يختلط بالناس.
كما أن مُعيقيب وهو صحابي جليل ممن شهد بدر مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأصحاب بدر لهم مكانة خاصة، قال عنهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وما يُدريك يا عمر لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، دعاه عمر -رضوان الله عليه- وجلس منه قيد رمح (مترين أو أكثر) من هذا وهو بعيد عنه، ولولا مكانته وكونه من أهل بدر لما التقى به، ومع ذلك حين اللقاء ابتعد عنه كثيراً بما يمنع انتقال العدوى.
كذلك من الأمور الأخرى التي أمُرنا فيها بالوقاية وهي من النظافة تغطية الإناء، وربط الوكاء، وغير ذلك من أواني الأكل والطعام، حيث يحرص المسلم على ألا تقربها الحشرات أو الأوبئة أو شيء مما يُفسد أو يسبب المرض.
كما أن من أسباب الصحة والمعروفة عالمياً، وأشارت لها في السنة النبوية الرياضة والحركة والنشاط، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من الكسل، ولا شك أن الكسل يعني عدم النشاط ويعني القابلية للمرض. ومن يُصاب بالمرض مطلوب منه البحث عن الدواء والرسول -صلى الله عليه وسلم- أرشد إلى ذلك في مواضع كثيرة منها (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام)، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله)، وفي هذا إشارة للباحثين في المختبرات وعلم الأدوية بأن يبحثوا عما يؤدي إلى الوصول للعلاج الصحيح الذي ينفع الله به العباد كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أرشد لبعض طرق العلاج مثل العسل وبعض النباتات الطبيعية التي لا تضر بالإنسان، توسّع فيها ابن القيّم في كتابه الطبّ، وهي مجال بحث عالمي حالياً فيما يعرف بالطب البديل.
وعلى رأس أسباب الشفاء التوكل على الله سبحانه وتعالى، وله أثر عظيم في النفس، وكذلك دعاء الله سبحانه وتعالى واستغفاره، وهذا لا يمنع على الإطلاق من أخذ الأسباب الماديّة الأخرى، بل فيها تكامل واضح في هذا الأمر لمن كان له عقل.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- أبطل التداوي بما لا فائدة فيه مثل الشعوذة وتعليق التمائم وما إلى ذلك، وأجاز القراءة بكتاب الله والدعاء الذي هو من أهم أسباب الشفاء النفسي والجسدي بحمد الله سبحانه وتعالى.
وللحقيقة العاملون في المجال الطبي والذين يخدمون إخوانهم المسلمين والبشريّة عموماً لهم الشكر العظيم ولهم الأجر الكبير من الله سبحانه وتعالى بما يقدمون من أعمال، ونحن لا ننسى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} كما قال الله سبحانه وتعالى، ولعل من يتسبب في الشفاء من الأمراض التي تُهلك الناس له أجر عظيم، وتنطبق عليهم هذه الآية والعمل في المجال الطبّي فيه تضحية كبيرة يُؤجر عليها كل العاملين في هذا المجال.
وكثير من علماء السياسة الشرعية والأحكام السلطانية رأوا أن وجود أطباء مسلمين يكفون حاجة الناس واجب على الأمة ككل وهي من واجبات الكفاية بحيث لو وُجد نقص فإن الناس كلهم يأثمون ولذلك يتكاتف الراعي والرعية في إيجاد الكوادر الطبية وما يخدمها وما يساعدها في علاج الناس في مثل هذه الظروف وفي غيرها.