حينما يتعب المرء من ضجيج الحياة، ويكتئب من المهددات، ويشعر بالنكد من المنغصات، ويرهقه هم الرزق، والتفكير في المستقبل، فإنه يسعى جاهداً إلى ما يشرح صدره، ويرفع عنه همه، فيبحث عما يزيل ذلك عن فؤاده، ويريح قلبه من آلامه.
ومن الناس من يهيم خلف أمور يظن فيها شفاءه، ثم تخيب فيها آماله، ومنهم من يوفق لدوائه، ويحصل على بغيته ومراده.
وإنه لا يوجد أمثل ولا أنجع وأنجح من نور الله وكتابه الكريم؛ إذ فيه الفسحة والسرور، وتعظيم الأجور لمن أخلص النية للرحيم الغفور، فكم أودع الله لمن تلاه من الحسنات، وكم يجد صاحب القرآن من بركاته عليه في دينه ودنياه، ولا غرو فهو كلام العليم الحكيم، والكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
هو الموعظة من الله، والشفاء لما في الصدور من الحيرة والشكوك و الجهل، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}.
وهو فضل الله و رحمته، {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
وإن معلم القرآن المخلص ليغبط على ما هو فيه، وهنيئاً له؛ فكم من إمام وقارئ قد شاركهم الأجر، فإنه «من دل على خير فله مثل أجره» كما أخرجه مسلم، و»خيركم من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخاري.
وهنيئاً لقارئ القرآن، وما أعظم بركة القرآن؛ «فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» أخرجه مسلم، وكم ممن رفعهم الله لم يرفعهم إلا بالقرآن، «يرفع الله بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» أخرجه مسلم.
إن من المهم أن تكون تلاوة القرآن ملازمة للمسلم كل يوم، وقد جاء عن الصحابة من يختم كل أسبوع، ومنهم من يختم أقل من ذلك، سيما في الأزمنة الفاضلة كشهر رمضان، والحمد لله الخير في هذه الأمة باق، والخاتمون لكتاب الله في أسبوع بل يوم موجودون في هذا الزمان.
وإن كتاب الله يتلى بتدبر وعمل بما فيه، كما قال الله سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
وإلى القارئ الكريم بعض الأمور التي يتنبه لها:
أولاً: لا ينبغي لحامل القرآن الاقتصار على الحفظ وأخذ الإجازات في القراءات، وإهمال فهم كتاب الله وتفسيره، فالصحابة أخذوا كتاب الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاوة وفهماً وعملاً، فلا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، كما جاء عن ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم.
ثانياً: ليس من التلاوة الصحيحة أن يتعمق القارئ في إقامة الحروف، ويلوي لسانه، ويتكلف في ذلك، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (إن أقرأ الناس للقرآن منافقاً لا يترك منه واواً ولا ألفاً يلفته بلسانه كما تلفت البقرة الخلا بلسانها ولا يجاوز ترقوته) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.
ثالثاً: ليحذر المسلم من قراءة القرآن بلحون محرمة، كالقراءة وفق المقامات الموسيقية، كمقام النهاوند والسيكا والصبا والبيات وغيرها من المقامات التي يغني على نسقها المغنون، والتي استهوى بها الشيطان بعض القراء، فأخذوا يتعلمون هذه المقامات، فهذا خروج بالقرآن عما هو له.
قال ابن كثير رحمه الله: (والغرض أن المطلوب شرعاً إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي فالقرآن ينزه عن هذا ويجل، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب، وقد جاءت السنة بالزجر عنه) تفسير ابن كثير (1-37).
وقال رحمه الله في الصفحة نفسها: (وهذه طرق حسنة في باب الترهيب، وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفاً، أو ينقص حرفاً، فقد اتفق العلماء على تحريمه، والله أعلم).
رابعاً: لينتبه القارئ أن أجر تلاوة القرآن لا يكون إلا لمن تلفظ بالقرآن، وحرك به شفتيه، وأسمع نفسه، كما نص على ذلك أهل العلم، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: (ليست هذه قراءة، وإنما القراءة ما حرك له اللسان) البيان والتحصيل لابن رشد (1-490)، وقد قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع فتاويه (8-363): (لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى، لكن لا يعتبر قارئاً، ولا يحصل له فضل القراءة إلا إذا تلفظ بالقرآن، ولو لم يسمع من حوله).
فمن قرأ القرآن قراءة صامتة لا يحرك شفتيه ولا يسمع نفسه وإنما يقلب نظره في المصحف فلا يعتبر تالياً لكتاب الله.
وختاماً فالقرآن كلام الله منزل من عنده سبحانه، وتلاوته والتعامل معه عبادة لا يجوز أن تؤدى على ما يوافق الهوى ورغبات النفوس، بل يكون تعبدالله بالقرآن على وفق ما يريده الله تعالى.
نفعنا الله بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
** **
- إمام وخطيب جامع الأمير مشعل بن عبدالعزيز بعرقة