عمر إبراهيم الرشيد
لا أظن أن اثنين يختلفان على أن العالم قد قارب حافة الجنون في العقدين الأخيرين، في دورة من دورات اختلال التوازن في الأخلاق والقيم الإنسانية التي تعاقبت على البشرية وما تزال منذ هبوط آدم عليه السلام من الجنة. ولكل شعب عقلاؤه وحكماؤه الذين ينادون للعودة للقيم وتجنب شرور الأطماع والآثام على اختلافها وتعددها، وبالأمس تحدث واحد من هؤلاء وهو المفكر الفرنسي ادغار موران قائلاً إن العالم بعد (كورونا) لن يكون كما كان قبله، داعياً الغرب إلى ترك بربريته الرأسمالية وتغيير عاداته الحياتية المغرقة في الملذات والشهوانية المادية والجسدية وعبادة العجل الذهبي.
كان هذا من خلال كتابه الذي دعا فيه إلى سياسة حضارية تراعي العلاقة الإنسانية ما بين الشعوب والحضارات المختلفة وعنوانه (من أجل سياسة حضارية). يقول موران إن قيمة الفرد في المجتمعات الغربية أصبحت تقاس برصيده البنكي بصرف النظر عن إنسانيته أو فكره، معرجاً على أهمية المنجزات التي تحققت هناك من رخاء اقتصادي ورفاهية وديمقراطية وحرية تعبير، إضافة إلى الضمان الصحي والاجتماعي والتعليم وغيرها من المكتسبات، إلا أننا اكتشفنا أن هذه المكتسبات لن تضمن السعادة، بعد أن دفعنا الثمن من الخواء الروحي والإغراق في المسكرات وأنواع الإدمان، ما ولد شعوراً باليأس والعدمية وأشاع الانتحار. ويقول ادغار موران إن المجتمعات الغربية قد تجاوزت حروبها البربرية البينية والطائفية والعرقية الدموية، وتجاوزت الأصولية المسيحية، إلا أنها دخلت في بربرية أخرى جديدة هي البربرية الرأسمالية، بربرية الربح والفائدة والفردانية والتقنية الجامدة الخالية من القيم الإنسانية.
بعد أن أوردت موجزاً لصيحة هذا المفكر في قلب مجتمع علماني كالمجتمع الفرنسي، أقول إن هذه الصرخة من رجل قارب المئة من عمره (ولد عام 1921) وهو ما زال في أوج فكره وذاكرته وإلا لما قال ما قال، لها وزنها وتأثيرها لأنها صدرت من رجل منهم ولم تأت من عالم أو مفكر من خارج الثقافة الغربية حتى توصف بأنها رجعية أو أصولية إسلامية على سبيل المثال لا الحصر. ومن ناحية أخرى لها تأثيرها، لمن يلقي السمع ويعقل، على بعض أبناء الشرق المبهور بكل ما في تلك المجتمعات دون انتقاء للمفيد والمناسب. لست في مقام وعظ فله من هو خير مني، لكن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهي له، ولن تعدم المجتمعات الإنسانية مهما وصلت من انحدار أخلاقي لمثل هؤلاء الحكماء. وهي منحة من منح هذه المحنة الكونية في العودة المتوخاة إلى شيء من رشد الإنسانية، ألم يقل الرئيس الأمريكي وهو من عتاة الرأسمالية كما هي دولته القائمة على فكرها (إن هذا عقاب من الرب). وغير خافٍ على كل عاقل أننا لا نخلو من أمراض اجتماعية ومادية ضربت في عمق مجتمعاتنا العربية، بما فيها من إدمان وجشع مادي وابتذال للقيم ولهاث استهلاكي، فلست في وارد تبرئة مجتمعاتنا من هذه الأوبئة التي تفوح روائحها في جادات المجتمعات الغربية، وهي ما يلزمنا الاعتراف بوجودها وبذل كل ما يعين على علاجها.
تقبل الله صيامكم وصالح أعمالكم.
عمر الرشيد