د.عبد الرحمن الحبيب
خلال حظر التجول بسبب وباء كورونا وما يمر به الأفراد من وحدة، صدر مصادفة، وفي وقت مناسب، كتابان عن العزلة الاجتماعية؛ أحدهما قبيل ظهور كورونا، والآخر نُشر الأسبوع الماضي وكان مفترضاً الشهر القادم.. ربما تم التعجيل به للحاق بفترة العزل. كلاهما فريد من نوعه ولا علاقة لهما بالعزلة الحالية لكنهما قد يساعدان على فهم أفضل لعزلتنا بالمنزل والتعامل معها والاستفادة منها..
الكتاب الأول بعنوان سيرة الوحدة (A Biography of Loneliness) للمؤرخة فاي ألبيرتي مركزة على تجربة الوحدة المتزايدة بالمجتمع البريطاني، وتناولتها كشعور عاطفي باعتبارها ظاهرة جديدة، تعود إلى نحو مئتي عام، مسلطة الضوء على المعاني الجسدية والعقلية للوحدة، مع أساليب علاجها بعصر النيوليبرالية..
الكتاب الثاني بعنوان تاريخ العزلة (A History of Solitude) للمؤرخ ديفيد فينسنت، مشابه للأول لكنه يتناول الموضوع من منظور التاريخ الاجتماعي بينما ألبيرتي تعالجه من منظور التاريخ العاطفي. كتاب فينسنت يركز على نوع من الوحدة: العزلة، مستكشفاً كيفية تعامل الناس خلال غياب الشراكة الاجتماعية على مدى القرون الثلاثة الماضية حتى العصر الرقمي، ومناقشاً الطبيعة المتناقضة للعزلة التي أصبحت مصدر قلق بارز بالعصر الحديث.
الوحدة تختلف عن العزلة لكنهما تتداخلان؛ فالناس الوحيدون يسعون للشراكة بينما المنعزلون يهربون منها. الوحدة هي «العزلة الفاشلة» حسب فينسنت، بينما تراها ألبيرتي «التوقف عن التواجد بطريقة ذات معنى مع الآخرين»، زاعمة أن الأشخاص الوحيدين هم أكثر عرضة للموت أبكر من غيرهم، وأن الفقراء أكثر عزلة من الأغنياء، والشباب هم الأكثر وحدة..
تاريخياً، شهدت العصور الوسطى المسيحية بعض الحالات الاستثنائية للعزلة، وأغلبها كانت تعبدية للنُساك والرهبان، إضافة للشعراء الرومانسيين الذين يختارون عزلتهم.. وهذا يذكرنا بما يحويه التراث العربي ممن اعتزلوا مجتمعاتهم وفي مقدمتهم الشنفرى بلاميته المشهورة (لامية العرب)، وأبو العلاء المعري الملقب بـرهين المحبسين أي محبس العمى ومحبس البيت بعدما اعتزل الناس.
يوضح فينسنت أنه بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر أخذت العزلة أشكالاً دنيوية بالهروب من ضغط المدنية إلى عالم طبيعي من النباتات والحيوانات البرية والجبال والأودية سواء بقالب رومانسي (شعر، رواية) أو رياضة (مشي، تنزه، تسلق جبال، رحلات بحرية). أما داخل البيوت فظهرت هوايات كالخياطة للنساء، وجمع الطوابع للرجال.. والكلمات المتقاطعة والبستنة والإبحار المنفرد حول العالم (حسب الطبقة الاجتماعية).. البحَّار روبن جونستون، كمثال، لم يتحدث إلى أي شخص لمدة خمسة أشهر أثناء ملاحته بمنتصف القرن العشرين. كما تنافس متسلقو الجبال الفرادى مع بعضهم، بهدف اكتشاف الجسد والروح وفك عقدة الحضارة..
وكلما ازدادت الحضارة تعقيدًا، زادت رغبة الناس بالهروب من الاختلاط الاجتماعي. في القرن التاسع عشر، عاش 1 % فقط من السكان البريطانيين بمفردهم، وبعام 1900 صاروا 5 %، وبلغوا 31 % عام 2011. اليوم يُعتقد أنهم يشكلون ربع السكان بأمريكا، وربما نصفهم بالسويد. في عام 2017، أعلن فيفيك مورثي، الجراح الأمريكي، عن «وباء الوحدة»، وبعدها بسنة عينت تيريزا ماي أول وزيرة للوحدة في بريطانيا، معلنة أن «ما يصل إلى خُمس البالغين بالمملكة المتحدة يشعرون بالوحدة معظم الوقت أو طواله».
أحياناً يكون الانعزال خياراً يسعى إليه الفرد، وأحياناً مأساة: في بريطانيا يقول مليون من كبار السن إنهم يعانون بشكل روتيني من الوحدة، ويشعر معظمهم بالحرج من الاعتراف بمحنتهم للأصدقاء والأقارب. لذا، تتساوى الرغبة بالانعزال مع الشعور القاسي بالإهمال، مما يشير إلى المفارقة في طبيعة العزلة، التي يمكن أن تكون نعمة ونقمة. فقد تشعر بالوحدة وسط حشد من الناس، وتلك أحلك حالاتها عندما تكون محاطًا بأشخاص يتسامرون. هذه العزلة هي أشد أنواع الوحدة بؤسًا (فينسنت).
وقد عبر عن وصف هذه الحالة أبو حيان التوحيدي: «.. الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة.. إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً.. هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه، وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان قريباً في محل قربه..».
حتى العزلة الطوعية قد تهيئ للمرض العقلي، أما الإجبارية فهي فتَّاكة استخدمت كعقاب (زنازين انفرادية) نظراً لقوتها في كسر الروح التي يسرد فينسنت مآسيها. إلا أن فينسنت يشير إلى عزلة صحية وهي التي تجمع الانفراد مع الاختلاط الاجتماعي عند الضرورة، ويرى أن التكنولوجيا الحديثة سهلت ذلك وصعبته في نفس الوقت سواء عندما تكون وحدك ولكنك متصل بالمجتمع عبر الإنترنت «عزلة الشبكة» أو عندما تكون مع الناس (صالة ألعاب رياضية أو قطار) ولكنك منعزل بواسطة سماعات الرأس. ثمة إرباك لمزايا العزلة يصعب التمتع بها بسبب التكنولوجيا، فضلاً عن احتمال أن الشركات العملاقة تراقبك! لكن هذه التكنولوجيا أتاحت الفرصة لمنحك العزلة متى شئت، وأعادت بعض المزايا مثل تحميل الكتب والأفلام وخلق هوايات جديدة..
الآن يعيش الناس فترة من العزلة أكثر من أي وقت في حياتهم، وتمضيته إما بما يُمتع ويُفيد ويفتح العقل بتجارب متنوعة وجديدة أو بالانتظار الممل والفرجة السلبية على الإنترنت والتليفزيون والتقوقع على هموم كورونا.. التكنولوجيا الحديثة تمنح فرصة أكبر لتجربة كليهما.. إنه خيارك.