محمد سليمان العنقري
لعل ما تظهره تداعيات جائحة كورونا يومياً أن العالم بدأ بمخاض ولادة نظام سينعكس بكل تفاصيله على واقع الحياة عامةً، سواء بعلاقات الدول مع بعضها أو بالتحولات الاقتصادية، وكذلك سلوك الأفراد في عاداتهم المعيشية، فهذا الإغلاق الكبير لم يقف عند حد معين، بداية من الفرد إلى الدول، لا بد أن يصنع تحولاً جذرياً بالتعاملات والتوجهات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وسيصبح هو القاعدة والأساس خلال السنوات المقبلة لحياة البشر.
فعلاقات الدول التجارية ستتغير تدريجياً لأن التوجه سيكون لتحقيق الأمن الغذائي والطبي وللعديد من الصناعات الأساسية داخلياً؛ أي العودة لتعزيز مفهوم السيادة والاعتماد على النفس، بدلاً من الوضع الحالي الذي أثبت أن فيه مخاطر كبيرة، فلا يمكن الاعتماد على دولة واحدة أو دول محدودة لتكون هي مصدر الإمداد للصناعات وللسلع الغذائية للعالم بأكمله، فقد كشفت الجائحة مخاطر ذلك، ليس على صعيد حدث استثنائي قد يعطل الإمدادات، بل الخطورة أن يتحول هذا الاعتماد الكبير على تلك الدول لنمط جديد من الاحتكار وتحقيق أهداف سياسية واقتصادية لصالح تلك الدول، لتكون بسيطرتها على نصيب الأسد من توفير احتياجات الدول لسلاح يمكن أن يحقق لها أهدافها البعيدة بالقطبية وتعظيم النفوذ، فالأمن الاقتصادي للدول ضرورة قصوى لتحقيق التوازنات في إدارة وقيادة العالم التي يجب ألا تكون محاصصة بين دول عظمى أو لقطب واحد، مما يخل بالتوازنات بشكل كبير بمختلف الجوانب.
فالعالم ينتج قرابة 86 تريليون دولار أميركي، لكن 40 بالمائة منها تتركز بدولتين أميركا والصين، وبنطاق أوسع فإن قرابة 80 بالمائة تتركز في دول مجموعة العشرين، وهو ما يظهر خللاً دولياً واسعاً بحيث أنه مع هذه الجائحة باتت دولاً نامية أو فقيرة تحت وطأة الانزلاق نحو الفوضى بسبب الأضرار الاقتصادية الهائلة التي عصفت بها نتيجة الركود العالمي مع مخاطر نقص بإمدادات سلع رئيسية وإعلان بعض أكبر مصدري تلك السلع عن إيقاف التصدير لعدة شهور فهذه التداعيات تشير أن تحولات كبيرة ستحدث في توجهات الدول لتعزيز أمنها الاجتماعي واستقرارها، بحيث تنتقل لمرحلة الاعتماد الذاتي على مواردها وإمكاناتها التي كانت معطلة، وهذا بدوره سيشعل استقطاب الاستثمارات لها، مما يعني أن تغييراً هائلاً بالأنظمة والتشريعات التي تجذب المستثمرين قادم، فالتنافس الدولي سيزداد والمزايا التي تعطى للمستثمر ستتغير وتزال عقبات كثيرة أمامه، وهذا سيكون مجرد جزء من التغيرات الكبيرة التي ستتجه لها الدول.
أما الأفراد فإن سلوكياتهم وعاداتهم الاجتماعية ستتغير، وهذا ما سيكون له تأثير بتغير توجهات الفرد الاستهلاكية والادخارية، مما سيعيد صياغة دور الفرد بالاقتصاد، فالإنفاق سيتركز على الأساسيات وسيعيد الفرد النظر لبنود إنفاقه سابقاً، مما سيغير بالأولويات بخلاف التغير بالثقافات والعادات المجتمعية إذ لم تظهر جائحة عبر التاريخ إلا وخلفت تغيراً ثقافياً في العادات الاجتماعية وسلوك الاستهلاك، بل حتى وصلت لتصاميم المنازل لتكون أسهل في أعمال النظافة وتقل فيها الزخارف والديكورات التي يمكن أن تكون مكاناً لتجمع الغبار وما يحمله من بكتيريا ضارة بخلاف تكاليف ومجهود أعمال النظافة والصيانة، إضافة لاتباع عادات جديدة بالنظافة الشخصية وزيادة الإنفاق عليها، وكذلك ما سيحدث من تغيير بإجراءات السفر بالمطارات والمنافذ البرية والبحرية للتأكد من السلامة الصحية للمسافر، وهو ما يشبه ما حدث بعد أحداث سبتمبر 2001م، حيث تغيرت الإجراءات الأمنية بالمطارات عن السابق.
العالم يولد من جديد، قد ينظر أنها مبالغة في تقييم أثر هذه الجائحة إلا أن قليلاً من التركيز والتمعن فيما يتم بالعالم اليوم وما انزلق له الاقتصاد العالمي والمخاوف والضغوط النفسية على الأفراد بكل دول العالم، جميعها ستنتج عالماً جديداً مختلفاً بتوجهاته على صعيد الدول أو الأفراد.