د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
ارتفعتْ نبرة العلم، وأُسرِجَتْ خيول علماء الأدوية واللقاحات منذ مطلع هذا العام 2020، حين تفشى وباء كورونا، كما علا وجيب البحث العلمي في مجال العلاج والوقاية من الأوبئة، وتواتر رصد أحوال العالم الصحية خلال الأزمة، وبدا العالم من حولنا يتعامل باحترافية ملحوظة لاستكشاف حقائق التأثير والمؤثر، وأصبحتْ تطالعنا الصور والأصوات في العالم بتقارب واقتراب من صناعة المقاومة الآمنة من خلال اللقاحات والأدوية للقضاء على الداء والوقاية الاستباقية منه، كما تصلنا أخبار التجارب السريرية في أروقة المستشفيات، ويرتقي المنابر الباحثون والعلماء الذين تصدوا للجائحة، وسبروا أغوارها. وفي بلادنا المملكة العربية السعودية - ونحن جزء أصيل من عوالم الكرة الأرضية - حمل زمن الكورونا حزمة من التنظيمات الإدارية ومناهج العمل اللافتة للوقاية من تفشي الداء، وعلاج المصابين به. ولقد تأكدتْ خلال الأزمة حاجة الناس للتخصص الطبي الوقائي، وتعزيز دور الصحة العامة. وعلى الصعيد الدولي سعتْ بلادنا مع دول العالم لتأطير متطور لنظام دولي جديد، يضمن الأمن الصحي العالمي الذي تتوسده كل الطاقات المشغِّلة للاقتصاد في عمومه، ومن ثم حياة الناس العامة. ولقد قادت بلادنا - ولله الحمد - مراكب من الأفعال الإنسانية تجاه العالم خلال أزمة (كورونا)، تجلتْ في الإسهام الكبير في دعم جهود منظمة الصحة العالمية، ودعم البحث العلمي في مجال الوباء لاستكشاف سُبل زواله، والوقاية منه بإذن الله، وقائمة عليا قدمتها بلادنا من الدعم والمساندة للشعوب التي اجتاحها الوباء، وفقدت مستلزمات كفاحه. وتأسيسًا على واقع الوباء الذي غزا العالم، ومتانة الدعم من قيادتنا الرشيدة الذي أحاط كل مراحل التعامل مع الوباء، ولأن الجهاز الصحي في بلادنا - كما هو في بلدان العالم - تصدّر بطبيعته واجهة المسؤوليات خلال الأزمة مكافحة وعلاجًا؛ واتكأت بلادنا على المستند العلمي في مجال المعرفة الصحية؛ فاستصدرتْ قيادتنا الرشيدة حزمة من القرارات الاحترازية، ونفّذتها الجهات الخدمية الأخرى، وأصبحت القوى البشرية في المجال الصحي مرجعية معرفية وتنفيذية؛ وبدتْ الاستراتيجيات قصيرة المدى لازمة؛ يفرضها واقع الأزمة، وموجز ذلك كله الإرشادات الوقائية من منطلق إقناع الناس بالأخطار الصحية والالتزام بها. كما أجادت وزارة الصحة وكوادرها التعامل مع عوارض الوباء والمرضى؛ وهو ما مكَّنها من تحقيق نسبة شفامرتفعة قياسًا بالمعدلات العالمية، كما كانت نسبة الوفيات مماثلة لتلك النسبة؛ وهو ما يعكس الجهد الصحي المبذول في التعامل مع الوباء، وإن لم تكتمل أمامنا الصورة الذهنية لما نملكه من جوانب الطب الوقائي في بلادنا الذي يبدو أنه جانب لا بد من رفده وترقية واقعه حتى لا نقف حين الأوبئة - لا قدر الله - والأمراض في عمومها في صفوف المنتظرين لصناعة اللقاحات، ونتوجه للمحاجر الصحية كمنقذ مؤقت، فإنه يلزمنا الالتفات وباستراتيجيات متينة لتفعيل الطب الوقائي بصنوفه ومراقيه كافة؛ فالاهتمام بالصحة العامة هو تأسيس لواقع صحي قوي حين الأزمات، وتأسيس لواقع اجتماعي حيوي نشط منتج، وتأسيس لجبهة داخلية، تسهم في خلق الأمن الصحي، وتأسيس لأولويات المرجعيات المعنية بالصحة، وأراه تحقيقًا للتوازن الذي يجب أن يكون بين ما تنفقه الدولة لتعزيز الواقع الصحي ومستوى الخدمات التي يقدمها جهاز الصحة في بلادنا؛ إذ إن انخفاض الوعي الصحي الوقائي حمّل المنشآت الصحية أعباء كان الوعي الصحي كفيلاً باختزالها. وفي زمن الكورونا كان البحثُ عن قوة الجهاز المناعي مضنيًا! والعناية بالطب الوقائي ومجال الصحة العامة يُعتبرُ ساعدًا مهمًّا، يسهم قطعيًّا في تمتين آليات المتابعة لمستويات الواقع الصحي بدقة حين يكون مرتادو المستشفيات ممن تستدعي حالاتهم التشخيص والعلاج المتقدم فقط، وحين يكون الجهاز المناعي صلبًا يصعب اختراقه من الفيروسات الغازية! ولأن الرعاية الصحية الأولية مطلب ملحّ، ولانتشار مراكزها في الأحياء، ومع وجود حزمة من الجهود الموجهة من وزارة الصحة لتلك المراكز كما نسمع ونقرأ! إلا أن واقع مراكز الرعاية الصحية الأولية الخدمي المجتمعي يحتاج إلى تأطير حديث في الجانب الوقائي والصحة العامة. ولعل تلك المراكز تكون صديقة لصيقة للصحة الرقمية؛ فمن خلال تفعيل الاتصال الرقمي تستطيع مراكز الرعاية الأولية الدخول إلى كل بيوت النطاق الذي تخدمه، وتفعيل التوعية الوقائية من خلال التواصل الرقمي، ومتابعة واقع الصحة، وسيرورة التعامل مع الوعكة الصحية، والكشف المبكر عن الأمراض ومؤشرات وجودها. ونتمنى أن تكون تلك الرعاية الأولية مصدرًا صادقًا لبناء استراتيجية الصحة العامة في بلادنا، واستشراف مستقبلها. ولعل من المفيد تأسيس هيئة للطب الوقائي والصحة العامة، تكون ذراعًا قوية لوزارة الصحة في بلادنا، وتصبح مراكز الرعاية الصحية الأولية هي الجهاز التنفيذي لليئة، وأن تعمل الهيئة على توسعة مفهوم الرعاية الصحية الأولية، ومد نواتجها وبرامجها الوقائية إلى النائي من المدن والأحياء، وأن تستثمر مراكز الرعاية الأولية في تحقيق مستويات عليا من نشر مفهوم الوقاية والصحة العامة، وأن الوقاية خير من العلاج كما تواترت تلك العبارة وصدقتْ!!