الهادي التليلي
لم يكن الترفيه أبدًا خارجًا عن الموضوع أو حدثًا عارضًا يظهر لدواع ويغيب بانتهاء أسبابها الترفيه هو من جوهر الإنسان لالتصاقه بمعنى حياته وهذا ما يدفع بنا لإعادة نظرتنا له فالحفر في مفهوم الترفيه يعود بنا إلى لحظة الوقوف على تحديد مفهوم عالمي للثقافة متفق عليه حيث أنه بعد الجدال الذي نجم بين علماء الإنتروبولوجيا الكلاسيكية والذين يرون الثقافة هي الحضارة ومن ثمة تقسيم الشعوب إلى مثقفة وغير مثقفة مما يسمح للمتحضرة استعمار البلدان غير المثقفة وتثقيفها والشعوب المثقفة آنذاك هي بلدان الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا ومن أهم رواد هذا الطرح ليفي بريل وتايلور وغيرهما, والطرف الثاني في هذا الجدل جماعة الإنتروبولوجيا البنيوية والذين يرون أن كل الشعوب مثقفة سواء كانت ممتلكة لأسباب الحاضرة أولا ومن بين روادها كلود ليفي شتراوس وهيرسكوفيتس وهذا الطرح هو الذي انتصرت إليه اليونسكو حيث عمدت في مؤتمر السياسات الثقافية المنعقد في مكسيكو سنة 1982 إلى تحديد مفهوم رسمي للثقافة «مجموع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً معين وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الإنسانية وتنظم القيم والتقاليد والمعتقدات هذا التحديد تاريخياً بدوره كان نتاجاً لمخاض سابق نتج عنه ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948 إبان الحرب العالمية الثانية، حيث نصت المادة 24» لكل شخص حق في الراحة وأوقات الفراغ» وهو ما أسس لميثاق الفراغ الدولي في الأول من يونيو 1970 على سبع مواد أساسية.. أولها لكل إنسان الحق في أن يكون له وقت حر؛ ثانيها للفرد الحق في الاستمتاع بوقت الفراغ، ثالثها لكل فرد الحق في استخدام منشآت أوقات الفراغ، رابعها من حق كل فرد أن تهيئ له سبل ممارسة الأنشطة الترفيهية، خامسها ضرورة وجود هيئات مسؤولة من مخططين ومهندسين وهيئات خاصة بالعمل على توفير الإمكانات لممارسة الأنشطة، سادسها لكل فرد الحق في تعلم واكتساب الأنشطة الترفيهية حتى يتمكن من استثمار وقت فراغه، وسابع هذه المواد لابد من التنسيق بين جميع الهيئات العاملة هذا المجال. هذه المكاسب والفتوحات لقطاع الترفيه سبقتها نقلة إيبستيمية كبرى سنة 1936 عندما أحدثت فرنسا أول وزارة للترفيه في العالم مع حكومة الجبهة الشعبية.
وجدير بالتذكير أنه قبل ذلك مع الثورة الصناعية وانتقال المجتمعات من فلاحية إلى صناعية برزت حالة من الاغتراب والتهميش للإنسان كذات فبرزت الدعوة و النضالات من أجل إخراج الإنسان من مدار الأشياء إلى مدار الذات الفاعلة ولقد أبدع شارلي شابلن في تصوير ذلك في شريط الأوقات المعاصرة les temps modernes إن الاهتمام بظاهرة وقت الفراغ والذي أفرزه الواقع المعيش أدى إلى ظهور علم مخصوص هو علم اجتماع الترفيه والترويح فظهرت كتابات كثيرة تند عن الحصر لعل من بينها كتاب «نظرية طبيعة الترفيه لمؤلفه فيلن سنة 1899 هذا الترفيه الذي يعرفه قاموس وستر بكونه الفعل الذي يسلي أو يرفه أو يجعل الوقت يمر بطريقة مبهجة والباحث الأمريكي فلابر يعرفه «كل ما يمنح أو يريد أن يمنح نوعاً من الارتياح من حقائق الحياة المتكدرة والرتيبة»ويعرفه شانون SCHANON انقطاع حيوي ومؤقت للحياة المملة.
وفي الحقيقة لا يمكن التعرض للترفيه دون التعرض إلى مؤتمر جيناف للشغل سنة 1924 والذي نصت مخرجاته على ضرورة تخصيص أوقات فراع يؤثث بمحتويات ترفيهية.
الترفيه رافق الإنسان في معابده وكنائسه ومساجده أثناء طقوس الاحتفال والعبادة والترفيه رافق المزارع الفلاح وهو يحتفل بصابته أثناء مواسم الحصاد في كل الثقافات، والترفيه اخترق الحروب وكان فقرة مركزية في البرامج اللاقتالية لكل جيوش العالم؛ والترفيه ملاصق لحظات حياة الإنسان من طقوس الولادة إلى حفل الختان فالزواج فالموت (حيث إن التنفيس بالأهازيج الحزينة ومراسم الدفن شكل من أشكال الترفيه).
لذلك مع التنامي الحضاري وظهور السينما والإنترنت تبلور الترفيه كنشاط مربح عائده من أعلى القطاعات في العالم حيث فاق عائده بالولايات المتحدة 2 تريليون دولار ووفر أكثر 2.5 من يد العاملة في أمريكا لوحدها.
لذلك برزت حاجة الإنسانية الدائمة للترفيه في استقرارها وأزماتها.. ويعتبر الترفيه العصى السحرية لإدارة الأزمات لهذا نرى أنه من الأولويات التي لا بدّ على البشرية أن تنظر إليها تركيز منوال ترفيهي دائم لا يهتز بالأحداث العارضة ويسهم في البناء والتنمية وهنا كان من الضروري الحديث عن الأسس التي ينبغي توفرها لبناء هذا المنوال وهنا لابد من توفر المعطيات التالية ترسخ ثقافة الترفيه والإيمان بجدواه وتوفر الإرادة الصادقة في تفعيل الترفيه وأدواره والتكوين المؤسسي الإداري والأكاديمي والإبداعي الذي يسمح بالإضافة في المجال لأن المنوال ليس تطبيقاً تقنياً أو منصة تواصلية أو برمجة سلسلة من الفعاليات أو مدن مختصة في صناعة الترفيه هو سياسة دائمة وخطط إستراتيجية مفعلة تهضم الجوائح والهزات وتبني اقتصاديات وتطور بلدانا في إطار عمل مؤسسي يفعل أدوار مؤسسات الدول ومجتمعاتها المدنية وأفرادها المبدعين.. والسؤال الذي قد يطرحه البعض كيف يكون هذا؟.
الخطوة الأولى في بناء المنوال الترفيهي هو تركيز استشارة وطنية حول الترفيه على غرار البلدان المتقدمة في المجال هذه الاستشارة يتم الإعداد لها بشكل احترافي من خلال حقيبة عمل ميدانية متكاملة تتوزع منابرها في كل المحافظات تتفرع عنها في مرحلة ثانية استشارة قطاعية يقدم خلالها المبدع وكل متدخل في القطاع تصوراته للترفيه الذي يراه في منطقته على إثر ذلك أي بعد الخروج بمخرجات عملية لهذه الاستشارة بقطبيها العام والقطاعي أي تحدد الخارطة الترفيهية بجوانبها الوطني والمحلي الذي يتفرع بقدر توسع الشبكة العمرانية وحضور تعدد سكاني يتوفر على حاجة ترفيهية والحاجة الترفيهية تختلف من منطقة إلى أخرى، وحسب علم الترفيه الحاجة الترفيهية هي المحددة للوجبات المقدمة لكل فئة ولكل منطقة عمرانية الخارطة الترفيهية هي الهيكل العظمي لمنوال ثقافي دائم فحاجات كل منطقة تبني كياناً ترفيهياً يشبهها ويشبه الخط الإستراتيجي للدولة لتطويرها الخارطة الترفيهية على أساسها يكون البناء الترفيهي كياناً واضح المعالم والحاجات، والاستشارة الوطنية للترفيه توفر مقترحات وأحلام كل مبدعي المكان.. فمن مبدع المكان الذي قد يكون مغمورا تتأثث مساحات ترفيهية جد فعالة، يتفاعل معها المستهلك المحلي؛ للفعل الترفيهي أكثر من نجوم الشاشة والفضائيات والسوشل ميديا لأنها منهم وتشبههم ومنها تصنع نجوماً حسب القاعدة القديمة من المحلية إلى العالمية.
ويلي ذلك بناء خطة إستراتيجية تراعي مخرجات الاستشارة الوطنية للترفيه وتفي للخارطة من خلال ترسيخ مؤسسات يفعل في أدوارها المبدع والمجتمع المدني من جمعيات وهيئات ونواد وتكون الساهر على حسن السير والتنظيم كما تقدم خطة كاملة للتمويل والتمويل الذاتي للفعاليات والأنشطة وإعداد كراسات شروط المشروعات المختصة في صناعة الترفيه ونحت معالم مدن ترفيهية بالتعاون مع البلديات والجهات المختصة وتشكيل هيئات اعتماد معترف بها عالميا في المجال.
المنوال الترفيهي كما له وجود حسي من خلال العمل المؤسسي له وجود رقمي من خلال منصات تطبيقات رقمية متطورة يكون فيها لكل مبدع ولكل مهتم بالشأن مكان من الفكرة إلى المشروع كما له أسواق للمنتجات الرمزية.
المنوال الترفيهي هو مشروع لبناء فعل دائم لا يتأثر بأيّ هزات، وكذلك هو عقلية احترافية في ترسيخ مجتمع وصناعة للترفيه عالية الجودة وهو أيضاً ثقافة تعد المضاد الحيوي ضد التطرف والقلق من خلال ثقافة عمل خلاقة على غرار ما ذهب إليه تايلور العمل يبعد عنا ثلاث آفات: القلق والحاجة والرذيلة.