د. خالد عبدالله الخميس
ورد في كتاب «ستيف جوبز» صاحب شركة أبل للمؤلف والتر اتكنسون مصطلح غريب اختطه جوبز نبراساً ومنهجاً في حياته وأسلوباً لتعامله مع الأحداث والمشاكل العصية، وهذا المصطلح سُمي «نطاق تغيير الواقع» Reality distortion field. وهذا المصطلح لم يكن مصطلحاً نفسياً أو تنموياً وإنما هي فلسفة من اختراع جوبز نفسه.
ورغم أن جوبز ينفرد بسمات شخصية غريبة الأطوار (سريع البكاء، سريع الغضب، عنيد، أناني، قاسي، سليط) إلا أن إيمانه بفلسفة نطاق تغيير الواقع هي من أعطته سرّ تميزه وسرّ إنتاجيته.
ودلالة هذا الفلسفة تعني أن بإمكانك تغيير الواقع طبقاً لأهدافك ورغباتك بغض النظر عن استحالة تحقيقها أو بعدها عن الواقع.
وهذا المطصلح يخالف الأمثال والحكم التي درج عليه البشر مثل: «إذا أردت أن تطاع، فأمر بما يستطاع»، أو «مدّ لحافك على قد رجولك»، «شعرة معاوية»، «لا تكن لينًا فتعصر ولا قاسيًا فتُكسر». ولو تأملت في فلسفة «تغيير الواقع» فهي ليس مجرد فكرة توحي بالتمرد على حدود القدرات البشرية، وإنما هو تمرد على القوانين الطبيعة ذاتها.
يرى جوبز أن المشاكل التي تتضاد مع مقدرة الإنسان أو نظنها تخالف القوانين الطبيعة فإنه يمكن تجاوزها عبر فلسفة «نطاق تغيير الواقع». فكل ما نقول عنه إنه مستحيل هو هراء محض وتعبّر به عن كسلنا وغبائنا، بحسب تعبيرات ستيف جوبز.
كان جوبز يأمر المهندسين والمصممين والفنيين بتشكيل مادة معينة لها خصائص فريدة، أو تصميم دوائر إلكترونية عجيبة، أو تطوير برنامج كمبيوترية تبدو مستحيلة، وعندما يُقال له: هذا يستحيل عمله، أو هذا يتضاد مع قانون القوى الطبيعية، أو هذا لا يتماشى مع قوانين الفيزياء، أو هذا مكلف جداً، أو هذه العملية تحتاج لوقت طويل، فكل تلك الحجج لا يقتنع بها جوبز، فكل ما يراه ومتأكد منه أن هذا أمر ممكن، وممكن جداً، بل إن إنجازه يحتاج لوقت قصير، وعندما يسألونه: كيف نعمل هذا؟ يجيب: هذا ليس عملي وإنما عملكم كمهندسين، وعندما يصرون على استحالة تصميم هذا الشيء، يقول: صمموا لي ثلاثة أو أربعة حلول ممكنة، وأنا سأختار الأفضل. وإن صمموا وعرضوها عليه ولم يعجبه شيء، قال لهم ساخراً وصارخاً في وجوههم: كل تصميماتكم تلك مثيرة للاشمئزاز، وعليكم معاودة البحث عن حلول، وعندما يعارضه أحد ما، يكيل جوبز عليه من الشتائم أو يطرده من عمله.
الغريب أن العاملين في نهاية المطاف يجتهدون ويدققون حتى يصلوا للشيء الذي يتخيله جوبز، وهكذا يخرج المنتج ويتحقق النجاح لشركة «أبل».
وإن كان جوبز عنيف وعنيد لكنه يعتبر ساحر الإنجار وملهم الإبداع.
والأمثلة في ذلك كثيرة وكثيرة جداً. فقبل أن تُنشأ شركة «أبل» كان يعمل في شركة أتاري، ورغم أنه موظف عادي لكنه دائم الشجار مع زملائه، ولمّا طلب منه مدير الشركة أن يطور أحد ألعاب أتاري على أن يكون الإنجاز خلال شهرين وافق على هذا التحدي، وذهب لصاحبه العبقري وزنياك وطلب منه إنجاز العمل خلال أسبوع بدلاً من شهرين، وسهروا الليل والنهار وبالفعل ما إن تمت أربعة أيام إلا والعمل منتهٍ.
مثال آخر: لمّا رأس جوبز شركة أبل طلب من مصنع زجاج إنتاج زجاج مضاد للخدش (وهو الذي استخدمه في أجهزة الأي فون والأي باد)، إلا أن المصنع وافق بشرط أن يكون التسليم خلال سنتين، لكن جوبز قال إن بإمكانكم إنجاز العمل خلال ستة أشهر فقط، وبالفعل ضغط عليهم وحمسهم حتى تم إنجازه خلال خمسة أشهر، حتى أن صاحب الشركة اندهش من سرعة شركته بهذا الإنجاز. كذلك، عندما كان لمس الغطاء المعدني لجهاز الأيفون يؤثر على تشويش الاتصال باعتبار أن لمس المعدن (الأنتل/ الهوائي) يؤثر على الاتصال، طلب أن يصمموا غطاء معدنيًا له مواصفات خاصة، وبالفعل تم إنجاز ما طلبه وكانت مادة الألمونيوم المؤكسد.
وهذه هو ديدنه يطلب المستحيل ويؤكد على سرعة الإنجاز وعلى توالي المنتجات، فما إن يخرج من منتج إلا ويُشغل المهندسين بالتفكير بإنجاز منتج آخر، ولهذا تسارعت عجلة التكنولوجيا الحاسوبية التي كان من المفترض أن لا تلحق على صيحة الأيباد والأيفون إلا بعد خمسين سنة.
إن التطور التقني الذي أوصلتنا إليه شركة أبل بدءًا من حاسوب أبل 1? وأبل 2 وماكنتوش مرورًا بالأيبود والأي فون والأي باد ومجموعة من البرامج التطبيقية والتي كانت كلها ما لم تتم بدون فلسفة «إمكانية تغيير الواقع» تلك القناعة التي لم تترسخ في عقل جوبز فحسب بل اعتبارها عقيدة ودينًا.
كانت فكرة خروج الأيبود، هو نتاج لرغبة جامحة في نفسه، بوجود جهاز صغير يضعه في جيبه ويسمع فيه مئات أو آلاف الأغاني، وبالفعل تمّم حلمه في عام 2001 من خلال فلسفة «إمكانية تغيير الواقع»، كذلك كان سبب خروج جهاز الأياباد نتاج لإنزعاجه من ثُقل وكُبر حجم شنطة الطلاب حينما يذهبون للمدرسة، وبالفعل تحقق ما أراد في عام 2010 حينما أنتج جهاز الأياباد بوزن نصف كيلوغرام وقادر على حمل جميع الكتب والدفاتر والأقلام في هيئة إلكترونية.
لم يكتفِ جوبز بأن يكون مؤمنًا بفلسفته بل زرع في المهندسين والعاملين ثقافة سرعة الإنجاز والتفكير باختلاف حتى تبرمجت عقولهم على المبادئ نفسها، ولذا تميزت شركة أبل عن بقية الشركات التكنولوجية بكونها صرحًا عالميًا في تكنولوجيا الحاسوبيات والاتصالات.
وشيء آخر، تمتاز به سياسة جوبز في الإدارة ولا يمكن لأحد من الشركات الأخرى أن تتبعه، وهو أنه لا يؤمن بالاستفتاءات واستطلاعات الرأي العام حول المنتج المفضل، بعكس رجال الأعمال الذين يعتمدون على مشاريعهم التجارية على نظريات التسويق والإدارة حيث دراسة الجدوى والتعرف على رغبات الناس واستطلاع مدى إقبال الناس على منتجاتهم قبل أن يُنتجوها.
فكان جوبز يقول إننا نوجه الناس نحو المنتج الصحيح وحينها ستتعدل توجهاتهم وتتغير ثقافاتهم ويفكرون بأسلوبنا، وكان يستدل برأي فورد عندما اخترع السيارة، إذ يقول: لو سألت الناس عن أفضل مركبة تتمناها، لقال لك جواد سريع، وما ذاك إلا لأن الناس ذلك الوقت لم يشاهدوا السيارة. ورغم النجاح المنقطع النظير لإدارة جوبز وتغيير أساليب حياة البشر، إلا أن هذه النوعية من الإدارة لا تُدرس ولا يعتد بها في علم الإدارة، فأسلوب تهميش استفتاءات الناس ناهيك عن أسلوب تحقير الموظفين لا يمكن أن ينجح في الإدارة إلا أن يكون قائد المنشأة هو جوبز، وجوبز نفسه.
ويدعي جوبز بأن إدمانه في مراحلة المراهقة على تعاطي حبوب الهلوسة كان لها دور في خلق أحاسيس مخالفة للواقع، وهذه الأحاسيس المخالفة للواقع يريدها أن تتحقق في واقعه كما هي في هلاوسه. وأياً يكن أن هذا هو السبب أم لا، وإيًا يكن أن فلسفة «تغيير نطاق الواقع» هي قاعدة سليمة، أم لا، فقد تورط جوبز بإيمانه بهذه الفلسفة حين مرضه بسرطان البنكرياس، فكان يجزم أن كونه نباتياً فإن بمقدوره تجاوز المرض، ولذا امتنع عن الحل الجراحي واكتفى بالعلاج العشبي والصيني، ولمّا انتشر الورم السرطاني ولم يكن له أي خيار، طلب من الجراحين أن يزيلوا فقط الجزء الذي يتركز فيه السرطان، لكن العملية لم تنجح ولم تقتلع السرطان من جذوره فانتشر إلى الكبد، مما اضطره لاحقًا للقيام بعملية زراعة الكبد، ولمّا طلب منه الأطباء تناول كميات من الغذاء الغنية بالبروتين كاللحم والسمك كي يعوض نقص الغذاء الناتج من فقد البنكرياس، رفض ذلك زاعماً أن الغذاء النباتي كفيل للتشافي وأن «تغيير الواقع» ممكن عبر الاعشاب والحمية، لكن السرطان تمكن منه وانتشر في جسمه، وكل هذا التدهور في انتشار السرطان ما كان ليكون لو أنه لم يعتقد بفلسفة «تغيير الواقع» التي رفعت شأنه في أوقات، ولكنها قتلته في آخر المطاف.