أ.د.محمد بن حسن الزير
بعد أن قدَّر الله ما قدَّر على المسلمين في الدرعية ونجد وسائر البلاد من محن وابتلاء وفتك وقتل وقَرْح ومصائب، وتكالبت عليهم قوى الشر والعدوان والفساد العالمية بقيادة الباشا التركي وأعوانه من جنسيات مختلفة، وبعد أن اضطربت الأحوال وانقطعت السابلة، وحلت الفوضى اشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها، أذن الله بالفرج من عنده، جلّ جلاله وعزّ سلطانه، وقيَّض للأمة قائداً جليلاً، وإماماً عظيماَ، أعاد الله به للناس دولتهم ومعها أمنهم وأمانهم، وحفظ الله به دينهم وأعراضهم ودماءهم، وأعاد لهم طمأنينتهم واستقرارهم؛ قال ابن بشر( 1/ 15): «ورجعت الفتنة بكراً فأطفأها الله تعالى على يد الفارس الهمام، والليث الضرغام، الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود..».
ويقول أيضاً عن سنة 1233هـ (1/212-213): «.. كثر فيها الاضطراب والاختلاف ونهب الأموال وقتل الرجال، وتقدم أناس وتأخر آخرين، وذلك بحكمة الله سبحانه وقدرته، وقد أرخها بعض الإخوان من أهل سدير، وهو محمد بن عمر الفاخري فقال:
عام به الناس جالوا حسبما جالوا
ونال منا الأعادي فيه ما نالوا
قال الأخلاء أرّخه فقلت لهم
أرخت قالوا: بماذا؟ قلت: غربال
قلت وانحل فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة، وعُدِمَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة، وُعمل بالمحرمات والمكروهات جهرا.. وسُل سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وتطاير شر الفتن في الأوطان، وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد، فلم تزل هذه المحن على الناس متتابعة، وأجنحة ظلامها بينهم خاضعة، حتى أتاح لها نوراً ساطعاً، وسيفاً لمن أنار الفتنة قاطعا، فسطع به من كشف الله بسببه المحن وشهره من غمده في رؤوس أهل الفتن الوافي بالعقود (تركي بن عبد الله بن سعود) أسكنه الله تعالى أعلى الجنان، وتغمده بالمغفرة والرضوان..».
وقد جرت مقادير الله أن ينجو الأمير عبد الله بن تركي وأخوه زيد، وقت المصالحة، لمهمة كان الله قد ادخره لها وقدرها له، وهي أن تكون إعادة الدولة على يديه؛ ولا بد هنا أن نشير إلى مسألتين مهمتين هنا فيما يتعلّق بشخصية الأمير عبد الله الصالحة المتدينة من ناحية، وشخصيته المحنكة المجالدة المجاهدة الصابرة من ناحية أخرى في سبيل تحقيق غايته السامية النبيلة..
فهو أولاً: لم يضع هدفه الأول أن يُحقق لنفسه مجداً شخصياً بالسعي للوصول إلى الولاية لشخصه؛ مع أن مثله صاحبُ حقّ مشروع لسابقة أسلافه المحمودين وأفضليتهم في هذا الشأن؛ ولكننا وجدناه في التاريخ فارساً يجاهد من أجل هف نبيل أسمى؛ ففي أواخر سنة (1234هـ) بعد أن هدم الباشا الدرعية، ونزل العيينة ثم رحل عنها، ارتحل (محمد بن مشاري بن معمر) إلى الدرعية، وسعى في عمارتها، يقول ابن بشر (1/219-224): «.. وأظهر إعلان الدعوة وأراد أن تكون بلدان نجد تحت يده بدعوى الإمامة فكاتب أهل البلدان ودعاهم بالوفود إليه والاجتماع فأطاعه أهل بلدان قليلة مما يليه في الدرعية، ووفدوا عليه، فاستقر فيها واستوطنها، ثم دخلت السنة الخامسة والثلاثون بعد المائتين والألف، وفي هذه السنة بعد ما نزل ابن معمر الدرعية واستقر فيها، وتابعه أهل منفوحة، وكاتبه أناس من البلدان.. ثم دخلت السنة الخامسة والثلاثون بعد المائتين والألف.. ثم إنه تمكَّنَ أمرُه في البلد وصار له فيها دعاة. ثم أتى إليه في الدرعية (تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعود) وأخوه زيد (وصارا عنده، وساعداه..،) وفي جمادى الآخرة عاشره قدم (مشاري بن سعود) الوشمَ، ثم سار إلى الدرعية ومعه عدةُ رجال من أهل القصيم وأهل بلد الزلفي وأهل ثرمدا وغيرهم..، ومعه حملات من الأرز والطعام، وقدم الدرعية ونزل في بيت من بيوت إخوانه؛ فانزعج ابن معمر، وهم بالامتناع والمحاربة، ثم عجز عن ذلك، وجنح إلى الصلح، وبايع لمشاري بن سعود، واستقام الأمر له.. (وقام معه تركي ابن عبد الله وَعَضَدَه..) وكان ابن معمر قد ندم على انسلاخه من هذا الأمر .. فسار من حريملاء بعدة رجال من أهلها وغيرهم، وسار معه ذلك الجيش، وقصدوا الدرعية ودخلوها بغتة، فدخل ابن معمر ومن معه على مشاري بن سعود في قصره وأمسكوه وحبسوه، ثم إن ابن معمر جعل ولده مشاري في القصر ورحل من الدرعية بما معه من الجموع، وسار إلى الرياض، وكان تركي بن عبد الله فيها ومعه عمر بن عبد العزيز وبنوه، فدخل ابن معمر البلد وهرب تركي وعشيرته إلى الحاير، فاستقر ابن معمر في الملك ودانت له البلدان، وكان قد أقبل عساكر من الترك مع أبوش أغا، ونزل بلد عنيزة.. فكاتبه ابن معمر وذكر له أنه دولة سلطان، وأنه أمسك مشاري بن سعود لهم، فكتب إليه أبوش أغا بإقراره في الأمارة .. وجعل ابنه مشاري في الري اض.. « الى آخر الأحداث المعروفة.
وهو ثانياً: حين آلت إليه مهمة الإمامة وإعادة الدولة سيرتها الأولى عبر تطور الأحداث، بعد العدوان على (مشاري بن سعود) لم يتوان، في أن يتصدى للمهمة العظيمة بهمة وتضحيات ومواجهة حازمة وشجاعة وإقدام، في وقت قلَّ فيه الأخلاءُ وكثر فيه الأعداءُ، كما قال في قصيدته الشهيرة؛ وفيها قوله:
يومْ إن كلِّنْ من خويهْ تبرَّا
حطّيْت الاجربْ ليْ خَويٍ يبَاري
نعمْ الرفيق اللي صطا ثم جرَّا
يودعْ مناعير النشاما حباري
رميتْ عنِّي برقع الذلّ برَّا
ولا خير في من لا يدوسْ المَحَاري
وانطلق بفروسيته المعروفة، بعد توفيق الله له ورعايته لخطواته، حين انطلق من الحاير وضرما التي لقي فيها مشاري بن معمر خذلانا جعله يفر هاربا إلى الدرعية؛ حيث قصده الإمام (تركي بن عبد الله) فأمسكه وحبسه، واستقر له الأمر في الدرعية، واستولى على الرياض، وحبس الولد وأباه، وعرض على ابن معمر إطلاق مشاري ابن سعود المحبوس عند أهل سدوس مقابل إطلاقه مع ابنه مشاري؛ ولكن خوف أهل سدوس من عسكر الترك الذين سبق أن وعدوهم بتسليمهم مشاري بن سعود، حال دون تحقيق ذلك العرض، وانتهى الأمر إلى أن تسلَّمَ (خليل أغا) مشاري بن سعود، وأرسله إلى محبسه الذي مات فيه في عنيزة، وحين تحقق الإمام تركي من ذلك، لم يجد بُدَّا من قتل الأب وابنه، وجاهد الترك ومن شايعهم، خلال ست سنوات منذ مأساة الدرعية، حتى أتم الله له، بعد كرٍّ وفرّ، وجهاد وجلاد، وتحرير البلاد والعباد، على يديه، من فتن الترك ودنسهم ودنس أوباشهم، إلى أن رحلوا إلى غير رجعة، بإذن الله القدير، وجمع الله به الشمل، وعمَّ الأمن والسلام، ربوع البلاد، عام 1240هـ، نتيجة لتلك البطولة الملحمية الرائعة! «.. حتى أمنت البلاد والعباد، وصار أهل نجد كلهم جماعة، وبايعوه على السمع والطاعة، وعمرت المساجد بالصلاة، والمدارس في أصول الإسلام وفروع العبادات، فأحيا الله به ما اندرس من معالم آبائه الكرام، ورفع به مقام أهل الإسلام..» (ابن بشر2/5).
وقد اتخذ من الرياض عاصمة للدولة، بعد أن وجد أن الدرعية قد أصبحت في حاجة لإصلاحها إلى جهود وأموال كثيرة من شدة التخريب والتدمير التركي العدواني الأثيم. وفي الختام نال مُجَدِّدُ الدولة السعودية مجدَ الشهادة بعد صلاة الجمعة وصلاة سنتها يوم 30-12-1249هـ، رحمه الله رحمة واسعة. وللحديث صلة.