فجأة وجد ذو التاج نفسه مشدوداً بقوةٍ خفية، وإذا هو فوق الأطلسي باتجاه الغرب، تارةً يغطس منتعشاً بمياه المحيط، وآونةً يعب من نسائم الربيع الصافية. إلى أين يمضي؟ هذه أول مرة يجهل الوجهة التي يستقبلها، ولا يجد في ذاكرته ملمحاً لثأر مختزن لتلك الأرض القصية. وقال في نفسه لعلها ما يسمونه العالم الجديد، أو ما كان جديداً حتى وقتٍ قريب. ها هي معالم البلاد تتضح مع بوادر الإشراق، أي مظهرٍ باذخ وأي جمالٍ باهر، هذه إذن عاصمة العالم، وأعرق المدن الحديثة، وهذا حتماً تمثال الحرية.
قرأ سريعاً على وجه المدينة موجزاً لتاريخ البلاد، فها هنا تراكمت ثروة البلاد، وتعاظمت مكانتها من استغلال وقهر ممالك الشرق الأقصى والأدنى، ومن هنا تم ابتزاز ممالك غرب القارة السمراء، واقتياد رعاياها رقيقاً لحقول الأثرياء، وعبر هذه البقعة انطلق الغزاة لاستئصال الملايين من السكان الأصليين وممالكهم القبَلية. هنا لعبت خمرة الثأر بخلايا التاج الفتيّ، وانطلق في غزوة فيروسية هي الأعتى والأوسع انتشاراً، والأسرع تأثيراً. ولم يغادر في نزهةٍ قصيرة إلى عاصمة البلاد، حتى كان بعض الناس يموج في بعض.
ما إن وصل إلى هناك حتى وجد القوم في فوضى سياسية؛ فمرشحون ينسحبون، وحزبيّون ينكفئون، ومناكفات حادة مع دول أجنبية، واتهامات لمنظمات دولية. وأخذت تترامى إليه أنباء شح المستلزمات الصحية، وحرمان البعض من الرعاية، والانفلات في الأسواق، ونفاد السلاح الفردي من الدكاكين، كل هذا في غمرة أيام. وقد هالَه أن رأى شيخ الحارة، يقوم بدور مأمور المستودع، فيحصي الكمامات والقفازات، ويوزعها، في مؤتمرٍ صحفيٍ، على الولايات، بدلاً من الحديث عن سياسة العالم. وقبل أن يغادر المدينة شاهد شيخ الحارة يطارد في حديقته الخلفية بعض الصحفيين الخبثاء، الذين لا يفتؤون يثيرون حفيظته بانتقاد مواقفه العشوائية.
حلّق الفتى ذو التاج عالياً، وعندما أصبح فوق مبنى المجلس القوميّ الكبير عطس عطسةً قوية، اهتزت لها أركان العالم الجديد، وجعلت ضحاياه فيه تكاد توازي ضحاياه في كامل العالم القديم.
ها هو الفتى يمضي سريعاً، وها هي عمائم سلاطين الأناضول، تجتذبه بألوانها العميقة، ولفّاتها الأنيقة، وقد طال بها الانتظار، وما إن أخذ التفافةً سريعة على المآذن والقِباب حتى شرَع يخترم الأنفاس، وينشر الذعر في جوانب «الآستانة» وما حولها. ولقد فاقم من الحالة محاولات البعض تجاهلها، والتعالي عليها، حتى أخذت تنتشر كالنار في الهشيم. وعندما مضى مغادراً، كاد يلمح ابتسامةً دفينة في محيا طيف السلطان عبد الحميد.
كان الاتجاه شرقاً - ربما - آخرة المطاف، وهو هذا الشرق الذي لا يكاد يتغيّر، مهد العروش، وينبوع التَلادة الملكية، لولا بعض الندوب والخدوش التي حفرتها على أخاديده مراهقات القرن العشرين. هكذا كان الفتى المتوّج يحدّث نفسه، وهو يُشرف من علٍّ على الساحة الحمراء والمنظر الخلاب للكرملين. هل يثأر لأسرة «رومانوف» المغدورة، أم يبارك هذا التراجع السريع والحاد عن حافّة الهاوية، وقفزة المجهول التي استغرقت قرابة ثلثَي القرن؟ أعمَل منجله الحاد، الذي استعاره من العلَم البلشفي الهاوي، في أجواف العابرين، وترك لقناني «الفودكا» وكؤوسها إكمال المهمة، وطار مشرئبّ التاج، تعزف أهداب تاجه سيمفونية الثأر الأخيرة، كما لم تعزفها أعظم أوركسترا في التاريخ.
في مكانٍ ما من العالم كان المجمع المسكوني الفيروسي يعقد أحشد اجتماعاته على الإطلاق في جلسة اعتذارية كبرى، تناوَب فيها المتحدثون للإشادة بالحملة الكونية للفتى «المتوّج»، والإغراق في الاعتذار لمقامه الملكي الجليل عن حماقات أعضاء المجمع السابق، وقِصَر نظرهم. وأثناء هذه الحمّى العاطفية الولائية أطل الفتى الفيروسيّ الممجّد رافع الرأس، شامخ التاج، يسحب رِداءه الأرجوانيّ، ويحيط به منذ دخوله عشرات الكرادلة، ويحمل أطراف ثوبه العديد من الشمامسة. وخلال موجة هتافات الترحيب والتأييد ترامت إلى سمعه عبارة جاءت من مؤخَر الصفوف: «كل هذا الترحال العبثيّ من أجل ثأر مصطنع لأصلٍ مزيّف؟!!!».
طغى الهتاف الترحيبي والتصفيق على كل شيء، وتقدَّم ذو التاج إلى العرش المنصوب، وعندما استقرّ متربعاً على مقعده الوثير وقف أمامه كبير الكرادلة مطأطئ الرأس، متحدثاً بمزيدٍ من الوقار والتبجيل قائلاً: «ليَهنك يا سيدي هذا النصر المؤزّر، وليَدم لك هذا المجد الأثيل، والسؤدد الأصيل. ها هي المسكونة تذعن لسطوتك، وجميع القارات تلوذ بجناحك، ومليارات الناس تدخل في طاعتك، وها هي الدول والجيوش تأتمر بأمرك، وتنفذ إرادتك. فهل قامت مملكة تداني مملكتك؟ وهل بلغ رعاياها عدد رعاياك؟! دمت سيد المسكونة الفيروسية المتوّج، وتأثّل أصلك المجيد عبر القرون».
ثم تعاقب الخطباء والمُمجِّدون.. ولا يزال المجمع الفيروسي منعقداً حتى إشعارٍ آخر.
** **
- عبدالرحمن الصالح