منصور بن شليويح العنزي
تمُرُّ بلادُنا الحبيبة المملكة العربية السعودية بظروف غير مُوائمة، شأنها شأن جميع دول العالم في ذلك, فذلك الفايروس المُتناهي في الصِّغَر -كورونا كوفيد 19- غيَّر من وجه الحياة بجميع صُوَرِها، وجعل الخُبراء والعلماء مُكبَّلي الأيدي، وتُطالعنا وسائل الإعلام العالمية في صباح ومساء كل يوم بعشرات الآلاف من المُصابين، ونسبة أقل من المُتوفِّين, سواء داخل المملكة العربية السعودية، أو خارجها، وبالطبع لم يكُن ذلك في الحسبان من جانب صُنَّاع القرار في العالم أجمع.
لن تسير الحياة على وتيرة واحدة، ولا بد من انجلاء الظلام مهما طال الليل، ويحضرني في ذلك حكاية عالمية قديمة وهي (نساء الأنقاض)، وهو باختصار ما حدث لألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن ذلك المثال بعيد عن الأحوال التي يمر بها العالم، فإنه يروق لي كثيرًا, ففيه العبرة والفائدة لكيفية تجاوز الأزمات.
استطاعت ألمانيا في فترة زمنية وجيزة أن تتخطَّى أزمتها بعد أن لحق بها الدمار الشامل على يد قوات الحُلفاء، وتُشير التقارير إلى وجود ما يُقارب 3.5 ملايين منزل تم هدمه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945م، ولمن لم يسمع عن نساء الأنقاض، وهي قصة فيها كثير من الحماسة والحمية، حيث كانت معظم النساء في مدن ألمانيا يقمنَ بحمل ما خلفته الحرب من دمار بعد إصابة معظم الرجال في الحرب، وَمِنْ ثَمَّ إعادة بناء الأرض المتهالكة، وما كانت دولة يُطلق عليها مُدمَّرة أصبحت مثالاً يُحتذى به في التقدم والتطور؛ حيث تُعَدُّ ألمانيا في تلك الفترة من أكبر ثمانية اقتصادات على مستوى العالم.
وقد يقول القارئ: وما علاقة ذلك بما نحن فيه الآن؟! والعلاقة وطيدة فما نمُرُّ به من أزمة عطَّلت كثيرًا من المخططات التي كنا ننوي استكمالها والعمل عليها، فلقد كان المسؤولون في سباق محموم مع الزمن؛ من أجل التَّطوير والبناء في ظل رؤية شاملة هي رؤية 2030 وأصبحت طبيعة المرحلة تتمثَّل في المُحافظة على صحَّة المواطنين والمقيمين في المقام الأول، ونحن نرى بأم أعيننا كيف أن الدولة أعزها الله تُسخِّر كافة طاقاتها وإمكاناتها للمحافظة على حياة المواطنين والمقيمين.
إن ذلك الوضع لن يستمر طويلاً -بإذن الله-، وستنحسر الإصابات بفيروس كورونا حتمًا، وستعود الحياة لطبيعتها، ولكن الأهم أن نستفيد مما حدث، وننظر للحياة نظرة مُختلفة، ونعمل ونتكاتف معًا، من أجل تجاوز ما أفرزته تلك الأزمة من سلبيات، وعلى العكس من ذلك فقد يكون ذلك هو المُحفِّز والوقود، من أجل الإسراع بمعدلات النمو في مرحلة ما بعد الأزمة، مع فهم عميق لما يحدث من مُتَغيِّرات اقتصادية واجتماعية وسياسية حولنا، وأرى من وجهة نظري البسيطة أن عالم ما بعد كورونا مُختلف تماماً.
نعم ... مُختلف في كل شيء، فلم يعُد هناك قُوى يُمكن الاعتماد عليها في سبيل الخلاص من أي مشكلة، سواء اقتصادية، أو سياسية، أو عسكرية أو صحية أيضاً، فكل يوم هو في شأن، والشأن اليوم هو الاعتماد على الذات، ويتطلَّب ذلك تضافرًا للجُهود في سبيل إعادة عجلة البناء من جديد، ويبدأ ذلك من بناء الفرد فهو الوحدة التي تمثّل المجتمع، وإنماءه هو بداية النهضة الحقيقية، فتربية العقول في مقدمة الأولويات الواجب أخذها في عين الاعتبار.
إن مقومات بناء المجتمع يلزمها حب وإخاء وتعاون حقيقي وإيثار، وبعيدًا عن الاختلافات والخلافات التي لا طائل منها، فلكل منَّا وجهة نظره الخاصَّة بها، وآفة الآفات الاجتماعية التي ألاحظها في عالمنا العربي خاصة، هو التباغض والتشاحن لمجرد الخلاف في وجهات النظر، وهذا ظهر جلياً خلال هذه الأزمة على كافة الوسائل الإعلامية للأسف.
والشاهد أننا في مركب واحد، ولا سبيل للنجاة إلا بنُكران الذات، وبالتأكيد فإن المولى -عزَّ وجلَّ- يرفع أقوامًا داعمهم العدل والحب والمودة والترابط، وبعيدًا عن العُنصرية الهدَّامة التي لا تُبقي ولا تذر، وتلك سُنَّتُه في الكون فكم من شعوب متعدِّدة الألسن واللهجات عاشت في حالة من الوئام والاحترام، والوطن واحد، والهدف واحد.