عبدالوهاب الفايز
عندما صرح وزير المالية أن المرحلة المقبلة تتطلب المزيد من الحكمة والحذر في التعامل مع الموارد المالية، وأشار إلى أن الحكومة بصدد اتخاذ خطوات لترشيد النفقات، وبصراحة وصف المرحلة بـ(المؤلمة). هذا يقدم فرصة حقيقية لإدخال الآليات الضرورية لرفع كفاءة القطاع العام.
في تصوري أن الإدارة الحكومية بحاجة إلى استثمار الظروف الحالية لتحول (تحدياتها) إلى (فرص)، بالذات مراجعة طرق وآليات العمل، والبحث عن مسببات (هدر الموارد) في القطاع الحكومي، وهذا من مستهدفات (رؤية المملكة 2030). والإدارة الفعالة هي التي تنجح بتحقيق أهدافها بأفضل جودة وبأقل تكلفة.
لماذا هي فرصة؟ الأزمات تطور المهارات القيادية والإدارية، وتضع الناس أمام تحديات وجودية، وهذا ينمي غريزة حب النجاح والمغامرة والإبداع، فهذه نزعات فطرية تبرز إذا تحدتها الظروف. هذه هي الذهنية الإيجابية التي نتمنى التركيز عليها وتذكير الناس فيها، وهي جزء من نظرية التحدي والاستجابة، أحد محركات التاريخ الاجتماعي.
الخروج من الخوف يتحقق بإحياء قدرات الذكاء الاجتماعي وبعث قدرات التفكير الإبداعي والأهم التفاؤل بقدرة الله على تحويل العسر إلى يسر، {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}.
برامج الرؤية ومبادراتها تتجه إلى رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وربما لم تستطع إنجاز هذا التحول لأنها ما زالت في بداياتها، ولأن الحساسيات والمحاذير الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة والمؤثرة في إدارة التغيير تجعل عملية صنع السياسات أكثر حذرًا، وتتحرى الظروف المناسبة لإدخال وإطلاق المبادرات والمشاريع النوعية.
مثلاً، هناك مجالات لاستنزاف الموارد الحكومية وأصبحت (تحديًا رئيسيًا) لأننا لم نستشعر أهميتها، ولأننا لم نبن التصور الحقيقي الذي يضعها في مركزية القضايا الأساسية لمجتمعنا واقتصادنا وأمننا الوطني. لم نواجهها ومضينا نعالج عوارضها عبر (المسكنات)، والسبب لتأخر علاجها يعود لغياب (مراكز صنع السياسات) الداعمة للقرار، والتي تقدم لولي الأمر الصورة بكل أبعادها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الدولة.
أحد مصادر هدر الموارد الحكومية واقع ساعات العمل الممتدة لتجارة التجزئة والمجزأة للقطاع الخاص والتي وسعت الطلب على الخدمات الحكومية، ورفعت المخاطر الصحية والاجتماعية (الأسرة والطفولة)، والأمنية، والبيئية، والاقتصادية (تحديات سوق العمل). إنها مصدر عظيم لهدر الموارد وجلب المخاطر!
هذا الوضع، تأثيراته على حياتنا واسعة، والقطاعات الحكومية المكتوية بنارها تدرك ما نقول، ولكن تخشى الدخول في مواجهة شعبية، فالناس تعودت أن تتسوق وتبحث عن الترفيه وفقاً لظروفها ومزاجها الخاص! لم ندرك مخاطر هذا علينا، فـ(الناس أعداء لما يجهلون). هذه هي الطبيعة البشرية.
ساعات العمل الطويلة وسعت فترات الزحمة في المدن، ورفعت التلوث والضجيج، والأسوأ أنها أدت إلى توسيع البيئة التنافسية للتجارة والعمل في القطاع الخاص، وأنتجت ظاهرة التستر التجاري التي طورت الحاجة إلى المزيد من العمالة الأجنبية، وهذا أدى إلى الظاهرة السيئة أي: ظهور الاستخدام الكثيف للعمالة، وهذا رفع الطلب على السكن في (الأحياء العشوائية) التي نرى مخاطرها المتعددة المتعدية على الصحة والأمن. مخاطر تمدد ساعات العمل لا تنتهي هنا!
أيضاً الظروف الآن تقدم الفرصة لمعالجة هدر الإنفاق في إدارة المدن.
ضرورة ترشيد النفقات وتعظيم الاستفادة من الموارد المالية نحتاجه بشدة لتطوير الآليات المطبقة لإدارة مدننا، فالمسؤوليات موزعة بين عدة جهات حكومية، وهذا حول مدننا إلى ورش مستمرة للحفريات! وحالة الإدمان الحكومي على هذا الهدر جعل الناس تقبل هذه الظاهرة وتتعايش معها ولم تعد مجال (التندر والكوميديا الاجتماعية). لقد نسينا الحالة المرضية المزمنة في مدننا، والذي توقف علاجها عند تشكيل (لجان تنسيق إيصال الخدمات).
في الفترة الأخيرة حدثت تحركات إيجابية بين الوزارات لحسم تشتت الخدمات بالذات في مجال الطرق داخل المدن، ونسمع عن مبادرات أخرى إيجابية. لكن تبقى هذه علاج لأعراض المرض. العلاج الحقيقي هو في (تطوير نطاق عمل الأمانات والبلديات) بحيث تكون هي الجهة المركزية الوحيدة الموصلة للخدمات عبر شركات متخصصة، كما هو متبع وناجح لإدارة المدن في معظم الدول.
المجال هنا لا يتيح التوسع بالأمثلة، ونتركها للأسبوع القادم، بحول الله.