د.فوزية أبو خالد
1
هذا مقالي السابع في مقاومة الجائحة بابتهالات شفيفة للرحمن الرحيم، وبريشة شرسة في اختراق العزلة بسحر حلال اسمه الحبر.
كنتُ أنوي كتابة مقال هذا الأسبوع عن مختلف أنواع الرسائل المقروءة والمسموعة التي تكيد لحجر كوفيد 19 بما يحمله لي منها جهاز الجوال الذكي (رحم الله ستيف جوبز) بوسائطه الإلكترونية المختلفة، بما فيها المكالمات عبر العالم. وكذلك كنتُ أنوي الكتابة عن الرسائل الملموسة التي أستلمها يوميًّا من خلف الباب, من الشرفة, يدًا بيد، أو قلبًا لقلب، في أشكال سافرة أو سرية متعددة. غير أنني في اللحظة الأخيرة غيرتُ رأيي؛ وقررتُ الكتابة عن تجربة اختراق جديدة للحجر، خضتها للتو من منتبذي النيويوركي مع مجموعة من الشغوفين بالمغامرات مثلي في أنحاء العالم وعلى أرض بلدي.
2
كان ذلك يوم الجمعة 1-5-2020 في تمام الساعة العاشرة مساء بتوقيت الرياض, الثالثة بعد الظهر بتوقيت نيويورك. وقد كانت مصادفة جمالية رائعة أن نجترح هذه التجربة (تجربة الشعر) عن بُعد، وقد حملت عنوان (إكسير الشعر) في هذا اليوم وفي هذا التاريخ بالذات؛ وذلك لما ليوم الجمعة من دلالات أريحية في الوجدان، تجعله بمنزلة العيد الأسبوعي لنا وحول العالم، ولما ليوم (واحد مايو) من إيحاءات في التقويم العالمي كرمز لعيد العمال، يخرج على دائرة الأيديولوجية السابقة لآفاق أرحب، وأيضًا لما في شهر أيار تحديدًا من تباشير بريعان الربيع، وذروة خصب الفصول، رشحته في أمريكا الشمالية ليكون شهر الاحتفاء بالأمومة.
إلا أن التجربة وإن جاءت في ذلك التاريخ، وفي مدة لا تتجاوز التسعين دقيقة، فإن الاستعداد لخوضها استغرق أطول من ذلك بمسافة حلم على الأقل.
3
قد لا يخفى على أحد أن إلهامي بفكرة إقامة أمسية شعرية افتراضية ينبع من شغفي الشخصي بالشعر، وتعلقي بحباله للاستشفاء بالشعر من وحشة العزلة، ولكن -للأمانة- لا بد من الاعتراف أن هناك مصادر عالمية وعربية عدة، استلهمتها، وكان لها دور حيوي في بلورة مبادرتي للإقدام على هذه التجربة. أتابع بهويتي كقارئة تواقة العديد من المصبات العربية والعالمية للإبداع عامة، والإبداع الشعري خاصة، وتصلني بهويتي كشاعرة دعوات عدة من جهات شعرية متعددة للمشاركة بالحضور أو بالقراءة، إلا أن فائض الوقت الذي أتاحته الجائحة مقابل ضيق حيز الحركة الذي خلفته الجائحة أيضًا قد أعطياني مساحة أوسع لارتياد مصباتي، وللاستماع لخريرها يجري في جدران البيت، ويكيد لالتزامي الأرثدوسكي بالحَجر بأنس حضور الشعر والشعراء إلى حجرتي عبر نوافذ العالم الافتراضي التي زاد خفقها عالميًّا في هذه اللحظة في محاولة لكسر شوكة فيروس كورونا بأشواك الشعر وحريره. وعلى سبيل المثال ليس إلا: هناك النشاط الافتراض الذي تتبناه مؤسسة الشعر بشيكاغو، الذي قدمت له بأن التواصل الجسدي ممنوع في لحظة الجائحة، ولكن التواصل الشعري الروحي والوجداني في ذروته عبر نوافذ اللقاء الافتراضي. وقد تعددت أشكال ذلك اللقاء من قراءة الشعر، وإقامة ورش عمل شعرية إلى الاحتفاء الشبكي بالمناسبات والجوائز، كالاحتفاء بكتاب جمهورية الصمم للشاعر الأمريكي الروسي إليا كامنيسكي، هذا بالإضافة إلى جمعية الشعر بنيويورك التي أغلقت المقهى الأسبوعي للقاءاتها، وفتحت مقهى خاصًّا يُعنى بتقديم الشعر في كؤوس من أثير على تعبير جبران خليل جبران المتقدم في خياله، عبر اللقاءات الثنائية أو الجماعية في العالم الافتراضي، ومثلها -إضافة إلى ذلك- اللقاء الافتراضي المفعم بالشعر الذي تبنته الأمم المتحدة هنا بنيويورك للاحتفاء عالميًّا بيوم الأرض في 31 مارس مع عدد من الشعراء عبر قارات الأرض بما يمكنكم الاطلاع عليه عبر الأخيلة، أو عبر بحث العنوان الآتي (أضعتُ الرابط)
«UN is organizing an art and poetry virtual events during pandemic»
4
من هنا صممت أن ندشن لنا نحن شعراء المملكة العربية السعودية أول أمسية شعرية افتراضية، على حد علمي؛ لنصغي لبعضنا بعضًا، ونفك عن قلوبنا أقفال الحجر، وليصل من خلال جسرها صهيل القصائد ومسيلها إلى العالم ممثلاً لصوتنا كمشاركين في الخطوط الأمامية على مستوى الشعر والأدب لمقاومة الجائحة بريش الكلمة مع كل الحالمين من أطياف البشر.
5
بعد مدة من تخيل فكرة «الشعر عن بُعد» بيني وبين نفسي، ومقارنة تقنياتها بتجربتي السابقة في «التعليم عن بُعد»، وإن لم أكن قد تحملتُ مسؤولية أن أكون مضيفة اللقاء الإلكتروني من قبل, قررتُ خوض المغامرة «الافتراضية واقعيًّا»، وبدأتُ بمكاتبة عدد من زميلاتي وزملائي الشعراء بالمملكة من أجيال عمرية ومشارب شعرية عدة، واستشارتهم في الفكرة، وطلب مشاركتهم في حال استعدادهم للمغامرة.
وصلتني الكثير من التفاعلات المتحمسة، وبعضها متردد، وبعض إن لم تواتِه الظروف للمشاركة فقد أبدى بهجة طفولية بالفكرة. ومن هؤلاء الشاعرة هدى الدغفق، والشاعرة هيلدا إسماعيل، والشاعر علي الدميني، والشاعر عبدالله الصيخان.
6
غير أن ما شجّعني، وحسم الموقف لصالح إعطاء إشارة البدء في خوض تجربة «الشعر عن بُعد» بقلب جسور، كان موقف كل من د. سعد البازعي ود. منيرة الغدير. على أن يقوم -كما اقترحتُ- د. سعد بخبرته المتعمقة في شعلة الشعر السعودي بكتابة مقدمة اللقاء، وتقوم د. منيرة بخبرتها المنفتحة على تجارب الأدب والشعر العالمية، مع تجذرها في متابعة حركة الشعر بالمملكة، بكتابة خاتمة اللقاء.
والحقيقة إنها ليست المرة الأولى التي أجد في مواقف د. سعد ود. منيرة أجنحة تحمل روحي إلى أبعد من مداها كلما احتككت بغيمة، أو اصطدمتُ بصخرة، أو فكرتُ في فضاءات بكر، وجنحتُ لطيش الإبداع، سواء في الشعر، أو في مشاريع حياتي الحبرية الأخرى. ولا غرو؛ فكل منهما في الملكوت الخاص لتجربته الثقافية والأكاديمية يملك ذلك النوع النادر من الأجنحة المتمردة، والملكات المركبة، والدربة المعرفية العميقة.
وأستطيع أن أعتز أيضًا بوقفة الشاعر أحمد الملا مع الأمسية الافتراضية من أول لحظة في ملاحظات تكشف عن موهبته الفذة في الإدارة الإبداعية بما لا يقل عن إبداعه شعرًا، وبوصفه مؤسسًا لمبادرات ثقافية وطيدة.
ولا أنسى وقفة طفول العقبي من خلال خبرتها الممشوقة في إعلام الديجتال، وفي الإدارة الإلكترونية لمنصات ثقافية.
7
كان فرسان اللقاء الشعري الافتراضي لذلك (المساء/ الظهرية): الشعراء أحمد الملا، محمد الدميني، محمد الحرز, عبدالوهاب العريض، عبدالله السفر, ومحمد خضر، وأنا (أعوذ بالله من قول أنا). وكان قلبي لحظة البدء يدق بقلق مشوب برغوة فرح؛ ما ذكرني بطفولتي أمام مايكروفون الإذاعة المدرسية إذا كان يومًا تحضره الأمهات، وأمامي وجه نور بجمالها الجسور، وبريق بسمتها بالروج باللون القرمزي. وكان لموسيقى الفنان عماد محمد في لحظات البروفة قبل بدء إشارة إطلالة جميع الشعراء مسرى السلسبيل في دمي.
في البدء كانت الكلمة للدكتور سعد البازعي, كلمة تحليلية مكثفة عن العلاقة الخصيبة بين التأزم والإبداع في التاريخ الثقافي للأدب لعموم المجتمع البشري، وفي مد التحولات الحضارية وجذرها. وسأضع في ختام المقال مقاطع معبرة من هذه المقدمة. تلته موسيقى افتتاحية, ثم تتالت القصائد التي كان مطلعها قصائد الشاعر أحمد الملا بما في قصائده من جمال موجع وتمادٍ في غابات الغي الشعري، وتحرير للإيقاع من سوابق جيله وأجيال تالية. الشاعر محمد الدميني بشعره المنحوت من قسوة الصخر وتكبر البرية على استئناس المدن مع زهو الزهد. الشاعر محمد الحرز وقد غرر بقلوبنا في أنحاء نهابة بين فلوات وأفلاك. الشاعر عبدالله الصفر فرد أشرعة الشعر على مداها، ودعانا للحاق بأمواج راكضة إلى مجهول. أما الشاعر عبدالوهاب العريض فقد ترك باعتذاره أبصارنا معلقة بمرات قادمة، يعوضنا بها عن الغياب. بقي محمد خضر يخترع تحديثات جديدة على قصيدة النثر، تسابق ريح الهواتف الذكية ومواقع التواصل ما بعد الحديثة.
وكانت قصيدتي بعنوان: «الجائحة في مهب الشعر الحجر في مهب الحرية».
أما حين دخلت د. منيرة على المشهد بكلمة الختام فقد هبت صبابات الصبايا من ناحية القلب، وأطلت بنات الأساطير من عشتار على شاطئ أثينا إلى فيريتاس (الحقيقة) على صدر هارفارد بكمبردج ماستشوسس. فليس غير المعرفة في هذه اللحظة الضاغطة على الأنفاس المهددة للحياة نقيضًا باسلاً للجائحة ولفيروس كوفيد 19. وليس إلا الشعر إكسيرًا للشفاء.
8
نزلت ستارة اللقاء على نوافير موسيقى عذبة شجية، يطلقها عماد محمد من عوده بسلمية وحب على جدران المعازل والمنتبذات حول العالم وداخل معتقلاته الصغيرة وكمائنه الكبيرة، في موكب من المكيدة الكونية المحفوف بشجاعة الشعر لوقف فجائع الموت الموحش للآلاف من البشر بفيروس كورونا، ولكسر شوكة الخوف العالق في حلوق البشرية جمعاء اليوم من سطوة الفيروس.
كان لا بد من وقفة ختامية لأبطال الصف الأول وللأطفال في مواجهة الجائحة. ولا يزال في أعناقنا وقفة شاهقة للحالمين الذين حضروا ذلك اللقاء الشعري الافتراضي مفترشين عشب الأمل؛ فبدون وجودهم ومداخلاتهم المكتوبة على جدار الوقت داخل اللقاء، أو على توتر بعد اللقاء، لم يكن لهذه التجربة جبروت البراعم في مواجهة عاصفة عاتية. كما لم يكن لها أن تجرؤ على ضرب مواعيد في عين الشمس للقاءات قادمة.
كان حضورًا متفاعلاً وحيويًّا لمثقفين يمتلكون شعريتهم الخاصة، وعلاقتهم الولهى بالكلمة وبالثقافة كما بدا من التعليقات الصوتية والمكتوبة بما يشعل تحدينا الشعري في لقاءات قادمة، كما كان فيهم كتاب محترفون وهواة مثلي، إضافة إلى شعراء موضع اعتداد شعريًّا، وموضع اعتزاز، ومنهم شاعرة الكويت والخليج والوطن العربي والمواقف الحرة سعدية مفرح، والشاعر أحمد كتوعة، والشاعر عبدالله ثابت.
وقبل النقطة الأخيرة في المقال لا بد أن أقول إن كثرة المحاولات تقوي الأجنحة، وإن هذه المغامرة هي تجربة أولى على ساحة الثقافة بالمجتمع السعودي في حضور إكسير الشعر عبر منصة افتراضية باجتهاد ذاتي ومدني, وبها وعليها لو أردت نقدًا كل هفوات وفجوات المبادرات الأولى بتوترها وبنقصها وتأرجحاتها ونشوتها النرجسية.
وأختم ببعض المقتطفات، كلمة للقاصة ليلى الأحيدب، ومقطوعة أو بالأحرى معزوفة مختطفة من المقدمة لـ د. سعد البازعي، ومن كلمة الختام العالمية الباذخة للدكتورة منيرة الغدير.
***
من كلمة د. سعد البازعي:
«لا أظن أنني أبالغ إن قلت إن حالة التأزم حالة إبداعية بامتياز.. لو استعرضنا روائع الأدب في تاريخ الثقافات سنجدها نتاجًا لتلك الزلال التي تكبر حينًا، وتصغر حينًا، لكنها لا تتوقف عن كسر هدوء الحياة بضجيج الاختلاف المبهج أو المؤلم؛ لكي تدفع الإنسان إلى التصدي بالإبداع شعرًا تشكيلاً أو مختلف أشكال الأدب».
«إن ما نعيشه اليوم من تأزم عام، ومن قلق وخوف وترقب، هو أيضًا حالة إبداعية عامة».
«كما في كل الأزمات نحن موعودون بالكثير من الركام، لكننا أيضًا موعودون كما هذه الأمسية بما يزحزح ذلك الركام، ويذكِّر بأن للقصيدة نضالاتها الأصيلة الممتدة من حناجر الشعراء إلى حدس المتلقين. شعراء هذه الأمسية هم شعراء تأزم بالمعنى المبدع».
من كلمة د. منيرة الغدير:
«الفلسفة عادة تتريث قبل إطلاق تأمل أو محاولة تفسير أمام الفاجعة أو الجائحة الوبائية، بينما الشعر هو اللغة التي لا تتظاهر بتفسير الحدث، أو إعطاء شرح عقلاني. الشعر يشبهنا بل هو انعكاس لإنسانيتنا بصمودها وهشاشتها».
«لجأ بعض الأطباء في أمريكا لكتابة الشعر وكأنه علاج آخر لهم. د. جون أوكرنت من تكوما بولاية واشنطن بالشمال الغربي كان يكتب قصيدة واحدة كل يوم، تبدأ كل سوناتا بالشطر الأخير من السوناتا السابقة، وتنزف قصيدة واحدة إلى أخرى (تاج) السوناتا كما يسميه. وقد قمت بترجمة إحدى قصائده.
«يوم جميل مقلق
أن ترى الناس يمشون على الواجهة النهرية
كما لو كانت السماء لا تحترق
سوق السمك مغلق
المقهى مغلق
البار مغلق
النرجس البري
مطأطئ الرأس
اليوم أول وفاة في تاكوما
امرأة في الخمسين من عمرها. الرذاذ
يغطيني,
ربما قشرة أسنان جارتي الخزفية».
***
مقتطف ليلى الأحيدب:
«أمسية تحدت كل الأقفال التي يغلق بها العالم اليوم أبواب اللقاء».