د. عيد بن مسعود الجهني
في زمن الاقتصاد البدائي في الديار العربية عندما كان الاقتصادي يقوم على الزراعة البدائية واستخراج اللؤلؤ من أعماق البحار، فإن كل ما كان يفوز به في تلك الحقبة من التاريخ -إلى حد ما-، هو ما يحتاجه في حياته، وكان الفساد أو بالأحرى (السرقة) تكاد تكون معدومة جداً، فالسارق قد تطول يده (شاة) أو أقل منها من الثمار، وقد تبلغ الاستيلاء على (جمل) فسفينة الصحراء كانت الأغلى التي قد تطولها يد السارق الخطير.
وقد تغير الحال في عصر الذهب الأسود، فمنذ اكتشافه عمت الفرحة كل أركان وطننا العربي استقبالاً للمولود الجديد، فأياديه البيضاء نشرت ظلالها على اقتصاد الدول المنتجة الرئيسة له، بل والدول العربية مصدرة العمالة إليها للمساهمة في دعم التنمية المستدامة خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط إثر الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1973م.
ومع تطور إيرادات الدول من البترول عاماً بعد آخر بدأت مسيرة النهضة الاقتصادية في تلك الدول، مشيدة المدارس والمعاهد والجامعات والمستشفيات ودور العبادة والطرق والمواصلات، وشمل التطور جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتنموية.. الخ.
في دول مجلس التعاون الخليجي وحدها ترصد مئات المليارات من الدولارات للمشاريع في ميدان مؤسسات التعليم والصحة والرياضة والحدائق والمتنزهات والفنادق ومشاريع أخرى، ناهيك عن مئات المليارات التي ترصد للمشاريع الكبرى الأخرى في البنية التحتية من طرق وجسور وموانئ ومطارات وسكك حديد ومرافق عامة.. الخ.
في الدول العربية أصبح الفساد متفشياً لدرجة جعلته يمثل أخطر القضايا التي تهدد اقتصادياتها، فهو ينخر في جسد الاقتصاد والإدارة، ويؤثر في إيقاع حركتهما، وتتعثر عملية بناء الاقتصاد والتنمية في كل وجوهها وعلى كل الأصعدة والميادين، ويتعدى ضرره الفادح إلى التأثير المباشر على الحياة الاجتماعية والثقافية.
عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله لعن الراشي والمرتشي والرائش، والراشي هو الذي يقدم الرشوة، والمرتشي هو الذي يتقبلها، أما الرائش فهو الذي يسعى بين المقدم للرشوة ومتقبلها، واللعنة هنا جاءت في مكانها لمن يقبل على نفسه أن يأكل حق الغير من دون حق، أو يأخذ مالاً أو غيره عن طريق الرشوة، وينطبق ذلك على الراشي والرائش.
وقد كتبت عن عاهة الفساد كثيراً خلال العقدين الماضيين، ومن ضمن ما كتبت قدمت تقريراً مختصراً في نواحي إدارية واقتصادية للملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته-، ومما ضمنته ذلك التقرير اقتراح بتأسيس هيئة مختصة لمكافحة الفساد تتصدى بقوة لحماية مصالح البلاد والعباد وبالفعل جاء الإعلان آنذاك عن تأسيسها وأصبح اليوم مسماها (هيئة الرقابة ومكافحة الفساد).
وقد بقيت تلك الجهة الرقابية هادئة إلى حد كبير بل أن الحساب الخاص الذي تأسس في تلك الفترة لحث كل من استولى على مال الدولة أن يبرأ نفسه وضميره برد ما استولى عليه، وفي هذا ستر لنفسه وسمعته وتوبة إلى الله، لكن هذا الحساب كان تلقيه لمبلغ متواضع جداً، فالفاسد يبقى فاسداً قاسي القلب حاقداً حتى على نفسه.
وقد بقي نشاط الهيئة تلك متواضعاً حتى جاء عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لتضخ الدماء في عروقها لتنشط من جديد، وهي (الهيئة) في ضرباتها الأخيرة ضد الفساد والمفسدين أثبتت أنها (قوة) رادعة.
وهذا عهد جديد تسجله بدعم قوي من القيادة جهود الدولة -دولة الحرمين الشريفين- لتؤكد على أن الفساد مصدره الأنانية وحب النفس، وأنه يبدأ صغيراً ثم يكبر.
وأن الفساد خلل في الدين، وانحطاط في الأخلاق.
وأن الفساد لا يراعي وشيجة قرابة ولا أواصر رحم ولا صلة صداقة.
وأن الفساد ظلم صراح لاشك في ذلك.
وأن المفسد مهما تمتع بثمرات فساده فإن عاقبته تكون وخيمة ونهايته رديئة وإنما يحيق المكر السيء بأهله.
وديننا الحنيف حذّر من كل أنواع الفساد، وبيّن النهايات الوخيمة للمفسدين، وأوضح أن الظلم نهايته الضياع والهلاك، إن كان للأفراد أو للأمم أو لدول، وفي الأثر: (إن الله يقيم دولة الكفر على العدل ولا يقيم دولة الإيمان على الظلم)، والظلم كما أسلفنا هو أساس الفساد وعموده، فالمفسد إنما يمارس ظلماً صراحاً، عندما يمارس فساده من رشوة ومحسوبية وغيرها من مظاهر الفساد.
ولا شك أن غياب مسئولية الرقابة الدقيقة يدخل الدول في متاهات عظيمة وتنهب ثرواتها على أيدي بعض مواطنيها الذين تقلدوا الأمانة فخانوا الله قبل أن يخونوا ضميرهم ووطنهم وأمتهم ومن قلدهم المنصب.
ولا شك أن ضعف هياكل الدولة الإدارية والمالية والقضائية والرقابية جعل الفاسدين الذين وثقت بهم القيادات وائتمنتهم على تحمل المسئولية يضيعون الأمانة، فسخروا سلطتهم على الوزارات أو المصالح والهيئات الحكومية من أجل تحقيق أغراضهم الخسيسة، فبددوا أموالاً كثيرة انتهت إلى جيوبهم وحرمت منها الدول والمواطنون غنيهم وفقيرهم في ظل غياب (قوانين العقاب).
وإذا أرادت الدول أن تحمي ثرواتها وأموال مواطنيها فإنها لابد لها من إعادة النظر في وضع جهات الإدارة التي تشكل منظومة السلطة التنفيذية وإعادة هيكلتها ومعها الشركات الكبرى التي تملكها الدولة أو حصصاً فيها.
ويجب أن يشمل هذا الاتجاه أجهزة الرقابة نفسها، السابقة واللاحقة لتصبح واضحة لكل ذي عين بصيرة وينسحب الأمر إلى إستراتيجية الخصخصة مالها وما عليها، فهي (الخصخصة) تحتاج إلى تعريفها بدقة اقتصادياً واستثمارياً وإدارياً وفنياً وقانونياً.. الخ.
أما صفقات العقود الكبرى التي تسندها الدولة لشركات كبرى ومتوسطة وصغرى ومقاولين من نفس الصفة، فهي الأخرى تحتاج إلى إعادة دراستها وتقييمها لتخفيض نفقات الدولة بشكل كبير خاصة في فترات انخفاض أسعار النفط، هذا ضرورة وليس ترفاً.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر 10، وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء وأن الله تعالى إذا أحب قوم ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي.
والله ولي التوفيق.