سام الغُباري
ظهر منفعلاً على قناة عالمية، متحدثًا في سياقات منفصلة عن التاريخ والواقع والجغرافيا والإنسانية، يصرخ ويهدد، ثم ينتهي اللقاء الصغير، ويلملم المجهول أشياءه، وقد باغته شعور غامض بالزهو. يمضي إلى أحد أزقة «عدن» مُشجعًا على المزيد من الفوضى، وحوله يتجمهر عاطلون عن العمل بأسلحتهم؛ ليعززوا «فخرهم» بحديثه.
هذه المشاعر المراهقة تجد رواجًا منحرفًا في وسائل الإعلام الإخبارية. شاشة مضيئة ضخمة، كانت خائفة ذات زمن مضى على سمعتها ومكانتها؛ فعملت على استضافة شخصيات ذات وزن وقيمة وكلمة. أما اليوم فصار وصف «الناشط السياسي»، أو «المحلل الاستراتيجي»، مُستهلكًا ومثيرًا للتندر والسخرية، إلا أنه صوت خطير في ظل اللادولة التي تشهدها بعض مدن اليمن العزيز.
يتجاهل مسؤولو الملف اليمني في تلك القنوات الكبيرة إظهار أصوات أخرى، آلاف منها، وآلاف حقيقيون على الأرض وفي البيوت، مبهوتون من هذه الجرأة المريضة على قدسية وواحدية الوطن والشعب اليمني، يتعمد الإعلام تجاهلهم؛ لأنه يُصر على تسميم فضاء اليمن وعقول أبنائه بألغام انتحارية.
من أجل ذلك يحتاج اليمن كله إلى صوت وفعل الناشطين المخلصين لهوية البلد الواحد في مواجهة ميليشيا العنصرية السُلالية في صنعاء، يتحدثون بصوت قوي جبّار عن الإرث التاريخي لليمن، وبأننا عيال عمومة من أقاصي المهرة إلى آخر جبل في صعدة، كقبائل وعائلات ومناطق. كل هذه الأسماء التي توزعت تنسل من رجل واحد، وقد فاض الخلق هناك عن حاجة الطبيعة؛ فتوزعوا إلى شعاب الجزيرة، وذهب أفريقيس ذي المنار إلى تونس ليؤسس إفريقيا التي أصبحت قارة كاملة باسمه، ومن ولاية «كولورادو» الأمريكية يكتشف علماء الآثار رسميًّا أن اليمني كان هناك قبل ثلاثة آلاف عام، وفي إثيوبيا كانت إمبراطورية الأكسوم التاريخية جزءًا من تاريخ يمني حافل بالتوسع الحضاري. يقول الهمداني (لسان العرب) مُفجّرًا مفاجأة قديمة مخبوءة في كتبه المدهشة إن «يونان» شقيق «قحطان»، جدّ اليمنيين جميعًا، غادر إلى بلاد الإغريق. وفسّر الهمداني، ووافقه الباحث الكويتي «الشمّري»، بأن الترابط القديم بين اليمن واليونان كان قرابة عيال عمومة، صلة من لحم ودم، وربما قد يفسر ذلك سر الولع الإغريقي بتصميم مختلف تماثيل التبابعة الحميريين، ومنها على سبيل المثال تمثالا «ذمار علي» «وياسر يهنعم» المنتصبان في صنعاء كتحدٍّ أسطوري يواجه كل هراطقة التاريخ الزائف.
وما هو جدير بالذكر أن «لبنان» فسيلة هاجرت من اليونان بعد قرون طويلة، وشكّلت لبنان الجميلة. وأتذكر أن الرئيس اللبناني الراحل «إلياس الهراوي» قال في حوار تلفازي إن أسرته جاءت من اليمن، ثم تنصّرت لظروف سياسية قاهرة، وكانوا قبل ذلك مسلمين.
مثلاً، هل يعلم ابن «ردفان» أنه ابن عم «يريم»؟ وهل يعلم ذلك المجاهر بالانفصال في أبين أنه من مذحج، وأن ذمار والبيضاء ومُراد عيال عمومته؟ بل قد ننطلق في واحدية عربية إنسانية إذا علمنا أن قبائل الأزد التي تتشكل منها مناطق في عُمان يلتقون مع اليمنيين في نسب واحد، كشجرة مباركة، وأن مذحج ابن عمّ حاشد وبكيل وشهران، تزاوج وانصهار لا فكاك منه. وكل ما ينقصنا كيمنيين أن نفكر فقط في اختراع الطريقة الملائمة لإدارة بلادنا بعيدًا عن حماقات «الإدارة الذاتية»، وأن نكون حازمين حيال العنصر الفارسي الذي تلبس في داخل اليمن ثوب النبوة زيفًا أفجع به اليمنيين، واستهلك قواهم، وأضناهم في حروب لم تنم.
هذه المعرفة الناقصة، الغائبة عن وعي الإعلام الموجّه، تدعونا إلى طرق أبواب العقول المحبة لليمن، وتبصيرها بتوجُّه جمهور الجيل الجديد من الشباب اليمني لإظهار ما يعيد التوازن للوعي العام، وينقذ المغرر بهم هنا وهناك من ضلالات مراهقين جهلاء، سيطروا في لحظة عبثية على وسائل التواصل الجماهيري كذُباب يواصل طنينه المزعج.
يحتاج اليمن في هذه اللحظة إلى مصل علاجي، يستهدف الوعي؛ فها هو حفيد نهشل الشهير بـ(الحوثي) يغزو كل يوم عقول الشباب التائهين في شوارع الشمال اليمني ليقول لهم إن هويتهم إيمانية، فيما تنتعش حركات انفصالية بهراء عن فصل جنوب اليمن عن يمنيته. ولا نحتاج في مواجهة المد الخطير من الكراهية الانفصالية عن التاريخ والحق والهوية إلا إعلاء الصوت الكبير الداعي إلى هوية وطنية واحدة، لا يقاومها إلا بائع هوى أو أحمق ممول من طرف معاد لليمن. حين يبدأ الوعي تنطلق الكلمة، وكل ما نحتاج إليه الآن أن نعبئ اللغة والهوية اليمنية، وننطلق بها إلى معركة المصير العربي المشترك؛ لننزع عن «كسرى» صوانه مرة أخرى.
وإلى لقاء يتجدد.