د. محمد بن يحيى الفال
لم يفق العالم بعد من هول ما حلَّ به من خسائر جسيمة، بشرية ومادية، تخلفها جائحة فيروس كورونا، حتى بدأ التراشق وكَيْل الاتهامات من دول عدة للصين (البؤرة الأولى التي انتشرت منها جائحة كورونا). وتصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول في ذلك؛ إذ وجَّه رئيسها دونالد ترامب كيلاً واسعًا من هذه الاتهامات والنقد للصين بأنها لم تكن شفافة في كل ما تعلق بالجائحة الكونية، سواء فيما يخص كيفية انتشارها، وتاريخه، وعدد الوفيات التي سقطت بسببها من الصينيين أنفسهم. وعليه أضحى الرئيس ترامب يذكِّر العالم في كل مؤتمر صحفي يظهر فيه بمسؤولية الصين عن الجائحة، وسوء إدارتها لها، وشدَّد على مسؤولية منظمة الصحة العالمية عن حدوثها، التي اتهمها ورئيسها الإثيوبي الدكتور تيدروس أدهانوم بمحاباة الصين، والتستر على أخطائها في معالجة الجائحة منذ بداية انتشارها ونشر معلومات مغلوطة عنها، وذلك بالرغم من التحذيرات التي جاءت من داخل المنظمة نفسها، أو من قِبل جمهورية الصين الوطنية المقابلة للبر الصيني الأم، الرافضة للعودة إلى أحضانه، التي أكدت مذكرتها المرسلة لمنظمة الصحة العالمية أن الفيروس ينتقل من الإنسان إلى الإنسان، وليس فقط من الحيوان إلى الإنسان كما كانت تتصور المنظمة، الذي اتضح عدم صحته بانتشار الفيروس بشكل سريع لم يكن يتصوره أكثر الناس تشاؤمًا، لدرجة أنه لم تخلُ دولة في العالم من تبعاته بشكل عطّل لحد غير مسبوق عجلة الاقتصاد العالمي. لم يكتفِ الرئيس ترامب بالتنديد المستمر بالكيفية التي تعاملت بها منظمة الصحة العالمية مع الجائحة الكونية، بل أصدر قرارًا بحجب التمويل الأمريكي الضخم للمنظمة الذي يقدر بأكثر من 400 مليون دولار سنويًّا. ومع قرار الرئيس ترامب حجب التمويل عن المنظمة بدأت أصوات أوروبية تظهر على العلن منتقدة بشدة طريقة إدارة المنظمة لأزمة الجائحة. وقد تصدر هذه الانتقادات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومع تزامن الانتقادات الموجَّهة للصين من قِبل الغرب بقيادة الولايات المتحدة، بأنها افتقرت للشفافية في تعاملها مع الجائحة الكونية بكل تفاصليها، وفي عدد الوفيات من الصينيين، وهو الأمر الذي اعترفت به الصين؛ لتخرج بإحصائية جديدة لأعداد مَن لقوا حتفهم بسبب الجائحة، ومع هذا الاعتراف الصيني الذي لقي ترحيبًا من عدد من الدول، فقد تزامن معه اتهام خطير لها بأن الفيروس المسبب للكارثة العالمية قد تم تصيعه في معهد مدينة ووهان للفيروسات، وذلك خلال بحوث على فيروس كورونا المسبِّب للالتهاب الرئوي الحاد (سارس)، وإمكانية استخدامه في إيجاد مصل لمرض المناعة المكتسبة الذي عُرف عالميًّا بالإيدز. والذي جعل هذه الاتهامات تلقى اهتمامًا واسعًا من قِبل الكثير من الساسة ووسائل الإعلام الدولية ترجيح عالم الفيروسات الفرنسي لوك مونتانبية مكتشف فيروس الإيدز، الذي رجح أن السبب قد يعود لخطأ مخبري غير مقصود، نتج منه تسرُّب الفيروس خارج معهد ووهان للفيروسات.
الحكومة الصينية التي وجدت نفسها في خضم سيل من الاتهامات لا ينتهي نفت نفيًا قاطعًا من خلال مسؤولي معهد الفيروسات وغيرهم من المختصين في علم الفيروسات من صينيين هذه الاتهامات التي اعتبرتها ليست سوى دعايات غربية، تحاول بها الدول الغربية التبرير لمواطنيها عن فشل الحكومات الذريع في مواجهة الجائحة التي كانت الصين هي أول مَن اكتوي بها.
مع تخوُّف دول العالم من موجة ثانية من الفيروس، تكون أشد فتكًا وضراوة، يتبادر للذهن مع حجم الخسائر الاقتصادية المأهولة أسئلة حول إمكانية عودة موجه ثانية من الحرب الباردة على العالم، يكون أطرافها الصين وحليفَيْها المحتملَيْن (روسيا وكوريا الشمالية) من جهة، والولايات المتحدة والدول الغربية المنطوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة أخرى. الحرب الباردة الأولى انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي، وسقوط جدار برلين، واستمرت عقودًا من الزمان بعد الحرب العالمية الثانية، وكان محورها التوسع والنفوذ من خلال التوتر على المحاور العسكرية والسياسية والاقتصادية، لكن الحرب الباردة الثانية التي ستأخذ شكلاً اقتصاديًّا ستحل لا محالة إذا ما استمرت حدة الاتهامات الغربية للصين بأنها وراء توقُّف عجلة الاقتصاد العالمي.
إنَّ موجة ثانية من الحرب الباردة لن تصب مطلقًا في مصلحة البشرية، وستكون نتائجها أكثر شدة وضراوة مما سببته جائحة كورونا على فداحتها. ولعل حتمية التعاون الدولي هو الخيار الاستراتيجي الصحيح لمواجهة تبعات الجائحة، الذي دعت إليه المملكة العربية السعودية التي تتولي رئاسة مجموعة العشري، وذلك في الخطاب الملكي الذي وجهه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود لقادة قمة العشرين، ولقادة التجمعات الاقتصادية الإقليمية في القمة الافتراضية التي عُقدت مؤخرًا، الذي يشرف على تنفيذ فحواه صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وذلك من خلال جهود حثيثة ومضنية مع دول المجموعة وخارجها لمواجهة الجائحة من خلال التعاون الدولي، التي شملت تقديم المملكة مبلغ منحة عاجلة لمنظمة الصحة العالمية بقيمة 10 ملايين دولار لمساعدتها في دعم جهودها في الدول الفقيرة. ولم تكتفِ بهذه المنحة السخية؛ فقد تعهدت بدفع مبلغ 500 مليون دولار لدعم الجهود الدولية لمواجهة كورونا، داعية دول مجموعة العشرين التي تترأسها في دورتها الحالية إلى المساهمة بمبلغ 8 مليارات دولار لدعم المنظومة الصحية العالمية في مواجهة الجائحة الدولية. ولعل من أهم الإنجازات لدعم الاقتصاد العالمي المتضرر من الجائحة الكونية، ومنعه من الركود، هو ما أشرف على تنفيذه سمو ولي العهد من اتفاق تاريخي بين الدول الأعضاء المصدِّرة للنفط (أوبك) من جهة، والاتحاد الروسي والمكسيك من جهة أخرى؛ لخفض إنتاج البترول لنحو عشرة ملايين برميل يوميًّا، أو ما يعادل 10 % من الإنتاج العالمي لسلعة النفط. خيار التعاون الدولي لمواجهة كورونا الذي دعت له قيادة المملكة من خلال موقعها في مجموعة العشرين، الذي أكد فيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أن التعاون الدولي هو الطريق الأمثل لمواجهة الجائحة الكونية، هو الخيار المنطقي والوحيد؛ لينعم العالم أجمعه بالسلم والأمن متحدًا في مواجهة جائحة كورونا التي تضرر منها الجميع، ومن دون استثناء.