د.عبد الرحمن الحبيب
في باكورة كل صباح تقف مجموعة من المشرَّدين بطابور انتظار للحصول على مقعد في جلسة استماع للجنة الكونغرس، أحياناً منذ منتصف الليل. قبيل بدء الجلسة بدقائق يظهر أناس مترفون ببدلاتهم الأنيقة من أعضاء جماعات الضغط، يأخذون مكان المشرَّدين بالطابور ويدلفون إلى جلسة الاستماع. هناك شركات قائمة لمن يدفع للحصول على ذلك أو حتى لحجز مقعد استماع بالمحكمة العليا الأمريكية. إنها صفقة ترضي الجميع: المتشرِّد يقبض حفنة من الدولارات والشركة تقبض أضعافها والزبون يحصل على أفضلية للدخول.
إن كانت تلك تبدو كوميديا سوداء فخذ الكوميديا السريالية، لكنها واقعية ومتكررة: مايكل رايس (48 سنة) الموظف بسوبر ماركت ولمارت، انهار أثناء مساعدة لزبونة بحمل جهاز تلفزيون إلى سيارتها، بعدها بأسبوع توفي بالمستشفى، ودفعت شركة التأمين ثلاثمائة ألف دولار للسوبر ماركت وليس لعائلة رايس الحزينة المسكينة. هذا يُسمى التأمين على حياة الموظف يدفع للشركة (COLI)، وكان بالأصل عن حياة الموظفين الرئيسيين والتنفيذيين للتحوّط ضد التكلفة الباهظة لفقدانهم ثم امتدت للبسطاء!
هذان المثالان (ما قبل كورونا)، مع عديد غيرهما، يطرحها فيلسوف الاقتصاد السياسي مايكل ساندل لإبراز المعضلات الأخلاقية في اقتصاد اليوم الذي يشتري كل شيء بالمال، لكنه يركِّز على نتيجتين (العدالة والكرامة): الأول يتعلَّق بعدم المساواة فالعملية غير عادلة كالوصول إلى جلسة الاستماع لمن يدفع أكثر؛ والثاني يتعلَّق بإفساد المقصد (مثلما يحصل بالتأمين) وإهانة الجهة (مثلما يحصل للكونجرس أو المحكمة)؛ وذلك في كتابه «ما الذي لا يمكن شراؤه بالمال» عام 2012م.
سبق لساندل قبلها بثلاثين سنة (1982) أن أصدر كتابه المشهور «الليبرالية وحدود العدالة»، مُشككاً بفكرة أن الأسواق الحرة تخدم الصالح العام، ومنتقداً أطروحة جون راولز «نظرية في العدالة» (1971) ذات التأثير الأقوى فلسفياً بالغرب، والمتأثرة بفلسفة كانط ونظرية العقد الاجتماعي التقليدية، مما دعا راولز ليجادل لاحقًا بأن نظريته للعدالة ليست ميتافيزيقية، بل نظرية واقعية سياسياً وقام بتعديلات عليها.
منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات وبزوغ الليبرالية الاقتصادية الجديدة مع ذروة تمثيلها السياسي بمارجريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريجن في أمريكا، ظهرت سياسات ونمت قناعات بأن الأسواق الحرة وآلياتها هي الأدوات الأساسية لتحقيق الصالح العام؛ وتم تعزيزها بقوة واجتاحت العالم مع نهاية الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربي مما مدد الفكرة بأن الأسواق يجب أن تحكم الحياة بكاملها من العلاقات الشخصية إلى الأمن القومي مروراً بالعدالة الجنائية والبيئة والصحة والتعليم والحياة المدنية ... إلخ. لم يعد الاقتصاد مختصاً فقط بدراسة عمليات مثل التضخم والبطالة، والإنتاجية والمدخرات والاستثمار، وأسعار الفائدة والتجارة الخارجية، بل اعتبره العديد من الاقتصاديين: العلم الذي يدرس الحوافز لتعظيم المنفعة، ويفسر كل السلوك البشري.. وهذه الأخيرة يعترض عليها ساندل.
لم يكد يمضي عقدان من الزمن حتى حدثت الأزمة المالية عام 2008 التي اعتبرت الأسوأ منذ الكساد الكبير سنة 1929م، فارتفعت أصوات منادية بإصلاح المنظومة الاقتصادية وأخلاقياتها، لكن الأزمة مرت دون تغيير يذكر سوى إصلاحات إجرائية بسيطة، ودون محاسبة أحد، بل تم التعويض بعشرات الملايين لمن يفترض مساءلتهم عن الكارثة من كبار المديرين التنفيذيين للبنوك والشركات المتضرِّرة!
بعدها، مضى اثنا عشر عاماً، وأتت كورونا ومعها أزمة اقتصادية فاقت كل الأزمات، فعادت أصوات لتفتح الملفات الأخلاقية للاقتصاد، ومعها أطروحات ساندل السابقة: «نحن بحاجة إلى عقلنة سلوكياتنا التي سيطرت عليها الأسواق.. وأن يُنظر للاقتصاد ليس كعلم، بل كفلسفة أخلاقية».. «إننا بحاجة شديدة لإعادة التفكير بدور الأسواق ونطاقها بممارساتنا الاجتماعية وعلاقاتنا البشرية وحياتنا اليومية».
كتاب ساندل الأخير يتناول أسئلة أخلاقية كبرى: هل ثمة خطأ في عالم يبيع كل شيء تقريباً في السوق حتى بالمجالات التي تحكمها بالسابق قيم غير سوقية؟ إذا كان كذلك، كيف يمكننا منع قيم السوق من التمدد إلى قيم خارج مجالها؟ وما الحدود الأخلاقية للأسواق؟ الفكرة الأساسية لأطروحة ساندل، هي: أننا بالعقود الأخيرة، أصبحنا نتحرك من اقتصاد السوق إلى مجتمع السوق.. اقتصاد السوق أساسي لتنظيم النشاط الإنتاجي، لكن مجتمع السوق هو مكان يباع فيه كل شيء تقريبًا. لم يبقَ إلا القليل جدًا مما لا يمكن للمال شراؤه، فلكي تقيَّم الأصول أو الأنشطة يجب عرضها بالسوق.. أصبح لكل شيء سعر، وصار «سعر كل شيء هو قيمة كل شيء».
ساندل ليس ضد اقتصاد السوق ولا اشتراكياً، بل عبَّر بوضوح «اقتصاد السوق يمثِّل أفضل تنظيم إنتاجي وتوزيع للسلع»، لكنه قلق من توسع الأسواق وقيمها إلى مجالات حياة ليست لها.. ويعارض الزعم بأن هذا الاقتصاد محايد أخلاقياً، فهو يؤثِّر في طريقة عيشنا مع بعضنا، وينبغي موازنة الفردانية مع المسؤولية الاجتماعية، والتوازن بين العمل كمجتمع مترابط وكوننا أفرادًا مستقلين..
صاغ ساندل أطروحته بلباقة وأناقة، وعارض النمط الاقتصادي الراهن بهدوء: في السابق ثمة معايير أخلاقية تستند على قيم غير مالية، لكن «تفشي» قيم السوق قضى عليها، ولن يكفي مجرد المطالبة بها ولا الدعوة للمسؤولية الجماعية.. ربما تكون لأزمة كورونا وتأثيرها الأخلاقي الهائل في المسؤولية الاجتماعية دور في تغيير القناعات والسلوكيات والسياسات الاقتصادية؛ وهذا ما يراهن عليه كثيرون..