حسن اليمني
أفضّل تسمية الدول النامية على دول العالم الثالث؛ فهي أقرب للعدل والحق، باعتبار أن قيمة الإنسان لا تخضع لميزان ثقل بلاده في القوة بين دول العالم. الناس سواسية وإن تمايزت الدول في الترقي والتطور. وهذا ما يعتقده الناس اليوم، وتؤكده أنظمة الأمم المتحدة، لكن هناك فعلاً ملامح غير متطابقة لهذا التساوي المزعوم.
تختلف قيمة الإنسان الاعتبارية من دولة لأخرى. يحدِّد هذه القيمة عدالة العقد الاجتماعي لهذه الدولة أو تلك، وإن كان هذا الاختلاف لا يخل بميزان التساوي بين الناس في القيمة الإنسانية، حتى وإن تمايزت ألوانهم وأجناسهم وعقائدهم وألسنتهم. هم في المجموع الواحد = ناس، ولا شيء يخل بهذا التساوي إلا اختلال العدل الإنساني الغائب حقًّا عن العقول المخلوقة مهما اتسعت مداركها وغار عمقها. لا يوجد حتى اليوم بالرغم من توافُر التطبيقات الفلسفية والفكرية المستمرة ميزان تساوٍ بشري عادل؛ فالتساوي الإنساني لا يعني التساوي المادي، لكن الفقير يتساوى والغني في إنسانيتهما، ولا يتساوى معه في حريته. الحرية قيمة مادية، تُشترى بالقوة والمال. وبالرؤية الفلسفية نفسها كل ما ينطبق على الفرد ينطبق على الدولة، والعكس كذلك. وبتعبير آخر فإن العالم يتكون من 158 «إنسانًا» أو دولة كوعاء جامع في منظومته لجماعة من أفراد الناس، ككتلة تملأ هذا الوعاء، تتساوى الصورة والشكل، وتتمايز النوعية في المحتوى والمضمون.
إنَّ مثلث المساواة والحرية والعدالة غير متساوي الأضلاع. التساوي هو ضلع القاعدة، وإنما يحكم زاوية ضلعي الحرية والعدالة قوة أو ضعف قيمتهما. ويستحيل أن يظهر على الأرض نظام متساوي الأضلاع والزوايا إلا في مدينة القرآن التي ظهرت في عهد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى نهاية عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولن تتكرر. هذا ليس تحيزًا عنصريًّا أو عقائديًّا لدين بقدر ما هو حقيقة يلمسها كل قارئ متأمل بصفاء ذهني مهما كانت أيديولوجيته وفضاء فكره. أقول لن تتكرر لأنها مثال مثالي صعب التطبيق لاستحالة إعادة الزمن بالمعطيات والظروف نفسها، لكن لأنه مثال المثالية يصح أن يكون غاية السعي والطموح.
الإنسان الفرد في نيويورك أو بجين أو جوهانسبرغ جميعهم متساوون في الإنسانية، لكنهم مختلفون في الحرية والعدالة، ينعمون بهذه الحرية والعدالة، ولكن بنسبية غير متساوية، وهي التي تحدد القيمة الاعتبارية لكل منهم بناء على قوة الوعاء الحاضن لهذه الكتل الإنسانية.
حُدِّدت قيمة الإنسان الأمريكي في قضية «لوكربي» بعشرة ملايين دولار أمريكي، بينما حددت قيمة الإنسان العراقي بألفَيْ دولار، وقيمة الإنسان الأفغاني بستمائة دولار لا أكثر! هذا الفارق الكبير لم يأتِ لتفاوت قيمة إنسان عن إنسان، وإنما لتفاوت قيمة الوعاء الحاضن. هذا الوعاء الذي رسم وحدَّد زاويتَي الحرية والعدالة على قاعدة المثلث التي تُسمى المساواة؛ بدليل أنه تم الدفع وتم الاستلام تأكيدًا لهذه الحقيقة.
إن العلاقة بين الإنسان والجمع هي التي تحدد القيمة، وإن تساوت القاعدة الإنسانية إلا أنها تختلف ماديًّا بقدر ما يحدد العقد بينهما سعة الزاوية لضلعَي الحرية والعدالة في مثلث المساواة والحرية والعدالة. وهو ذاته الذي يميّز دولاً عن دول، ويرتبها (أولاً وثانيًا وثالثًا) بدلاً من متخلف ونامٍ ومتقدم. وبالرغم من أن الأول ترتيب، والثاني توصيف، وكلاهما لا يسوغ بخس قيمة إنسان عن إنسان، إلا أن إظهار الفكرة يستحث العقل في أهمية إعادة تحديد سعة الزوايا.