لمحة
كانت قطر حتى عام 1867 تتبع أسرة آل خليفة في البحرين متقلبةً في ولائها ما بين الدولة السعودية الأولى والثانية وبين مَن حولها من الأمراء الأقوياء والأتراك العثمانيين في عهودها الأولى. ومن يتصفّح سجل أسرة «آل ثاني» الحاكمة في قطر يجد الانقلابات التي تترد بين انقلابات بيضاء على شاشات التليفزيون أو دموية حافلةً بالكثير من تمرد الأبناء على الآباء؛ ففي عام 1972 أطاح خليفة بن حمد آل ثاني بابن عمه أحمد أثناء وجوده في رحلة صيد بإيران بترتيب من ابنه حمد بن خليفة في انقلاب وصفته بعض التقارير الغربية بأنه كان دموياً، وفي عام 1995، أطاح حمد بن خليفة بوالده بعد أن غادر إلى أوروبا في رحلة استجمام في سيناريو دراماتيكي لم يتقبله الشعب أول الأمر وفرض عليه بالقوة واتجهت حينها الاتهامات كلها إلى الرأس المدبر لهذا الانقلاب وهو الشيخ حمد بن جاسم بن حمد آل ثاني، وكانت فترة حكم الشيخ خليفة غير مستقرة تماماً فقد ظهرت أنباء عن محاولة أخرى للانقلاب عليه في صيف عام 2009، وتردد حينها اسم حمد بن جاسم، كأحد المتآمرين، وكان مشعل أحق أبناء حمد في ولاية العهد ولكنه اتهم بالتورط في محاولة انقلابية فانتقلت ولاية العهد إلى جاسم بن حمد شقيق الشيخ تميم الذي كان له آراء غريبة لم تعجب والدته فكان من الطبيعي أن تكون ولاية العهد من نصيب تميم بن حمد لا من نصيب فهد الأخ الأكبر غير الشقيق لتميم الذي عرف بآرائه المتشددة، ولم يلبث الشيخ تميم أن تسلَّم الحكم بعد تنازل والده عنه في عام 2013 وصفه البعض بأنه كان مدفوعاً إليه ولم يكن عن اختياره أو محض إرادته.
اقتصاد قطر والحلول المستحيلة
قبل المقاطعة كانت السعودية والإمارات تستحوذ على ما يقرب من ثلث واردات قطر من المواد الغذائية التي بلغت 1.05 مليار دولار في عام 2015 وتأتي معظم الواردات، وبخاصة منتجات الألبان، عبر الحدود البرية السعودية وهو ما يعني أن النصف إلى أكثر من ثلثي سلع قطر وخدماتها يأتي عبر معبر سلوى مع السعودية وعن طريق الموانئ الإماراتية وحسب موقع (euronews) فقد رأى الخبراء أنّ الأسابيع والأشهر التي تلت المقاطعة شهدت اختناقات في إمدادات المشاريع القطرية من السلع والخدمات إضافة إلى أن تكاليف الممرات البديلة من خلال الطائرات أو من خلال المرافئ العمانية والإيرانية ستكون أطول وأعلى كلفة الأمر الذي سيؤخر إنجازها ويعرقله، وفي جانب آخر يظل قطاع البنوك معرضاً لمصاعب جمة لاسيما بعد انسحاب الودائع الأجنبية التي تشكِّل نسبة 24 % من مجموع الودائع في البنوك القطرية، فالبيانات الصادرة في الشهور الأولى من سريان المقاطعة توضح التأثر الكبير في القطاع المصرفي ولعلاجه قامت قطر بتصفية ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار من استثماراتها في أدوات الخزانة الأمريكية، وأنفقت أكثر من 40 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية لدعم عملتها وبنوكها ولكن مع ذلك فالبيانات الصادرة من مصرف قطر المركزي تقر بتراجع ثقة المستثمرين بالاقتصاد القطري، حيث انخفض حجم الاستثمارات المباشرة الجديدة في قطر في الربع الثالث من عام 2017 لتصبح 816 مليون ريال (223.5 مليون دولار)، مقابل 1.251 مليار ريال (342.7 مليون دولار) في الربع الثالث 2016م. وما زالت المقاطعة تلقي بظلالها على قطاع المصارف في قطر رغم كل السياسات التخفيفية التي اتخذتها الحكومة القطرية فبعد عام من المقاطعة نقلت وكالة ستاندرد آند بورز، للتصنيف الائتماني، النظرة المستقبلية السلبية للاقتصاد القطري، بسبب ارتفاع ديون الحكومة المستحقة عليها لمصلحة البنوك المحلية إلى 91 مليار دولار، بمعدل زيادة سنوية 29.3 %، وانخفاض رصيد احتياطيات النقدي الأجنبي بنسبة 13.7 % إلى 37.5 مليار دولار. وحسب موقع (BBC) الإخباري فإن قطاع الطيران من القطاعات المتضرّرة وسط تراجع أرباحها بشكل ملحوظ مع قطاع العقارات والبيع بالتجزئة الذي يشهد أضراراً جسيمة فأصبحت مراكز التسوّق والفنادق التي كانت تعج بالسائحين السعوديين والإماراتيين شبه خالية وانخفضت أسعار العقارات بشكل حاد وسط تخمة المعروض قبل استضافة قطر لكأس العال2022 التي ما زالت تشهد احتجاجات واسعة النطاق بسبب أوضاع العمالة في قطر ومزاعم الرشوة والفساد مع زيادة تكلفة البنية التحتية.
يذكر أن قطر بعد المقاطعة تستورد 73 % من المواد الغذائية ومواد البناء من إيران وفي ظل جائحة كورونا واختناق إيران وغلق البلدان المجاورة موانيها أمامها فقد أضاف مشكلة أخرى إلى مشاكل الاقتصاد القطري وقد تكون قطر نجحت في استجلاب الأبقار وتوفير الألبان والحليب مع تكاليفها العالية ولكن تظل قطر بيئة غير صالحة للزراعة وتعتمد في سياستها الزراعية على الغير فتقوم بشراء الأراضي الزراعية في الخارج في دول إفريقية مثل السودان من خلال برنامج قطر الوطني للأمن الغذائي وتقوم بتثبيت الفلاحين فيها على أن يقوم هؤلاء الفلاحون بإطعام أفواه القطريين لذلك فإن تعافي الاقتصاد القطري تماماً أمر غير ممكن في ظل هذه الظروف المحيطة وأن كل هذه الحلول التي اتخذتها الحكومة القطرية قد تكون أشبه بحبة البندول كعلاج مؤقت.
قناة الجزيرة
يمكن أن نختصر قطر في قناة الجزيرة؛ فقطر هي قناة الجزيرة وقناة الجزيرة هي قطر، ولا تزال تدور غيمة من الأسئلة المتشابكة حول دور هذه القناة المشبوه؛ فقد كشفت وثيقة لموقع ويكليكس ارتباط وضاح خنفر الإخواني المدير السابق للجزيرة بعلاقة وثيقة مع المخابرات الأمريكية، ومما يلفت الانتباه بشكل خاص هو تخصيص قطر لجزء كبير من استثماراتها في الآلة الإعلامية الرياضية bein sport التي تجتذب قطاعاً كبيراً من الشباب الخليجي والعربي لتقوم بخلق جيل يحمل أفكار الدوحة أو على الأقل إيجاد حالة من الاسترخاء الذهني لدى القطاعات الشابة عن كل ما تفعله قطر من خلال هذه الفعاليات الرياضية المتنوعة أو على الأقل توجد نوعاً من القابلية لما يطرح في آلة الإعلام السياسي الأخرى (الجزيرة) بعد التنويم المغناطيسي للشعوب وهي لا تنسى في ذلك كله أن ترفع شعار الفصل بين الرياضة والسياسة.
الثروة التي نزلت من السماء
وصناعة الدمار
في تقرير للتليغراف (2013) بعنوان (قطر تلعب بالنار) أظهر أن دعم قطر للمجموعات المسلحة هو لاكتساب نفوذ أكبر للإمارة الصغيرة بمساعدة الثروة الآتية من الغاز وفي سبيل النهوض بهذا اللسان الرملي المتدلي على ساح الخليج العربي استضافت قطر الكثير من الفعاليات الرياضية والمؤتمرات، وقامت بشيء من البهلوانية السياسية والأجندة المتوزعة هنا وهناك حتى توهمت أنها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس مع أنها لا تتجاوز قدر العملة النقدية بمقاييس الخرائط فهي أقرب لكونها شركة علاقات حديثة أدرجها المقامرون عليها في سوق السياسة منها إلى كيان حقيقي، مع افتقادها لمقومات الدولة الحقيقية الموجودة في جارتها الكبرى (المملكة العربية السعودية) مما ولَّد لها مركب نقص جعلها تعمل سرًا وجهرًا على الكيد لها بشتى الصور لتحقق مشروعها الموهوم عن طريق المال أو الدخول في مجموعة علاقات مع أطراف متضاربة ففي تقرير لصحيفة نيويورك تايمز - يتهم قطر بالضلوع في تنفيذ هجوم من قبل ميليشيات حركة الشباب الصومالية على ميناء بوصاصو - تنقل عن مسؤول أمريكي - بعد أن تتساءل المجلة عن تمدد قطر في عالمين مختلفين- قوله: إنه لن يفاجأ إذا كانت قطر تحاول اللعب على كلا الجانبين وهذا ملخص السياسة القطرية فتجدها مع الطوائف السنية وإيران ومع حزب الله وإسرائيل في نفس الوقت وتحار هل هي أمريكية الهوى لأن لديها أكبر قاعدة جوية أمريكية أو إيرانية المزاج لأنها العضو الوحيد في مجلس الأمن الذي صوَّت ضد إدانة أنشطة إيران النووية (القرار 1696 في 2006) ورفضها لإدراج أمريكا للحرس الثوري كمنظمة إرهابية في أيرنة متصاعدة وسط سياسة مثيرة للريبة يعنون لها الكاتب الفرنسي بار فيليب دي بول كتابه بعبارة (قطر قراصنة الديمقراطية) تحت غطاء من المبادرات والمؤتمرات والمسحة الإسلامية ودعوى نصرة قضايا الشعوب المظلومة وصبغة من التشدد تجاه بعض القضايا الحساسة (القضية الفلسطينية مثلاً مع أنه لا يخفى على أحد الملف القطري الإسرائيلي) حتى أوهمت الجميع أنه لا يمكن فعل شيء بدونها والحقيقة غير ذلك إطلاقاً وكل ذلك لتمرير أيدولوجيتها السياسية فتجدها في مصر وتونس إخوانية أكثر من الإخوان وفي المقابل تجدها في ليبيا وسوريا متمردة أكثر من المتمردين، وهو ما يظهرها أنها غير قانعة بالقوة الناعمة وتطمح إلى ما هو أكثر من الوضع التقليدي وهذا ما حدا بالدول الأربع إلى مقاطعتها في 2017 بعد أنأخلت باتفاقية 2014 وسعت لإقامة تكتلات سياسية وعلاقات واسعة النطاق مع جهات دولية ذات أطماع في المنطقة وجماعات إسلامية مسلحة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وقدمت لهم منصة ناطقة كأداة للتفوق المشبوه أمام القوى الأكبر في المنطقة فقامت منفردة بتبني ثورات الربيع العربي في 2011 خلف الإخوان المسلمين بهدف تفكيك الأنظمة الخليجية القائمة حتى أصبح الربيع العربي كما لو أنه هو الربيع القطري إلا أنه خارج حدودها كأن ساعة الصفر قد دقت وأن حجارة الدومينو بدأت في التساقط وأن هذا وقت إعادة تشكيل العالم العربي وبعد هذه السنوات العجاف من السياسة القطرية المشبوهة في المنطقة ربما السؤال الذي طرح وما زال يطرح: متى ستتوقف قطر أليس لقطر من نهاية وما هي هذه النهاية يقول مؤلف كتاب (سادة اللعبة الجدد) أن قطر أقرب من أي وقت سبق إلى نهايتها، ويعلّق على ذلك بقوله «إن الأشجار مهما طالت فلن تصل إلى السماء.»، وفي كتاب صدر لإيمانويل رضوي «قطر الحقائق المحظورة إمارة على وشك الانهيار»: يؤرِّخ لمرحلة مليئة بالتناقضات والصراعات المعقدة حول السلطة داخل التكوينات القطرية وسط مراهنة على الإسلام السياسي مع بيئة سلفية وانفتاح كبير على الغرب تصل بقطر لمرحلة التلاشي الكبير.
وفي تقرير للدكتور جينغلر الذي شغل وظيفة باحث في معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية بجامعة قطر بعنوان (التكاليف السياسية للتوجه الغربي لدولة قطر) في موقع مجلس سياسة الشرق الأوسط بواشنطن (MEPC) تطرق إلى استطلاع تم في يونيو 2012 يوضح أن الثقة في مؤسسات الدولة الأساسية تراجعت في كثير من الحالات دون مستويات ما قبل الربيع العربي فانخفضت نسبة القطريين الذين يقولون إنهم «واثقون جداً» في القوات المسلحة بنسبة 10 % عن السابق. وانخفضت كذلك الثقة في المحاكم وفي مجلس الشورى وتراجع احترام الدولة؛ فـ42 % فقط أظهروا دعمهم لقرارات الحكومة و70 % أشار إلى أهم مشكلة تواجه قطر وهي التدخلات الخارجية من خلال المال وكان الأكثر شيوعاً في الوصف هو قولهم إن قطر تتفنن في صنع أعداء جدد ولا نحتاج إلى مزيد من الذكاء لمعرفة أن النسبة في وقتنا الحاضر - لو أجرينا مسحاً آخر - ستكون أكبر لأن المبررات كما هي أو أكثر شدة. فإلى أي مدى سيصمد هذا الاصطلاح الهش بين المكونات المتنازعة مع العزلة المفروضة عليها جيوسياسياً من قبل جيرانها ومع هذه الاتجاهات المجتمعية السائدة؛ إنها إمارة في مأزق خطير حقاً محاطة بجيران كبار جداً مع كمية من العلاقات المتضادة صاحبتها منذ إنشائها مع كونها عرضة لأطماع إيران كما هو الحال في حقل غاز القبة الشمالية فهي تختنق فعلاً حتى في ظل تقاربها من تركيا وإيران.
إن الحالة السياسية في الدوحة يرثى لها فهي أشبه بالانفصام المزمن! وكما قال أوليفر دالاج في كتابه (سادة اللعبة الجدد) كالفأر الذي وقف أمام الأسد لأنه صديقه الفيل يقف وراءه وهي لا تدري أنه في يوم من الأيام سيدهسها أو يتركها ومصيرها المحتوم فلن تنفع قطر تحالفاتها على المدى الأبعد ولا المهمات القذرة التي تقوم بها لأطراف دولية (أمريكا طالبان مثلاً) لأنها في النهاية ستكون ضحية نفسها ولن تستطيع أن تصمد طويلاً أمام التقلبات المحيطة بها ربما تكون ورقة لا أقل ولا أكثر ووسيلة يستخدمها الآخرون في ظل هذه الظروف المحيطة أما أن تكون قلب الحدث أو صانع له فهذا أمر يفوق قدراتها بسنوات ضوئية.
قطر والخيارات المتاحة
يبدو أن قطر لديها خياران لا ثالث لهما الخيار الأول قبولها بالشروط التي وضعتها اللجنة الرباعية ودخولها في المنظومة الخليجية والعربية من جديد وتصالحها مع نفسها قبل محيطها، لكن هل ستتخلّى قطر عن مشروعها الذي تبنته من عقدين بكل هذه السهولة المعروف أنها نظام مستعد لقبول التنازلات فقد طلبت من أعضاء في حماس مغادرة البلاد فورًا مع اختفاء لبعض المنظرين اللبراليين القوميين المحسوبين عليها عن الساحة في مساع لتخفيف التوتر لكني أرجح الخيار الثاني وهو أن تستمر بالمكابرة وتقوم بتعزيز علاقاتها بالمحور الذي تدور في فلكه دائماً وهو ما يعني خلق وضع إقليمي متأزم وسيكون انتحاريًا لقطر وسيضعها في خلاف ليس بالبعيد مع الإدارة الأمريكية، فإيران لأمريكا العدو رقم واحد والتأزم القطري الأمريكي يتراوح بين استضافة قطر لقاعدة العديد من جهة ومن جهة أخرى كونها الصديقة الحميمة لحركة (حماس)، والقريبة من حزب الله، وعلى حد تعبير البعض لولا القاعدة الأمريكية فستكون تحت ضغط أمريكي رهيب حتى صرح جون كيري قائلاً: «قطر لا يمكن أن تستمر في تسويق نفسها حليفة للولايات المتحدة يوم الاثنين وتقوم بإرسال الأموال إلى حماس يوم الثلاثاء» ومثله روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي السابق قال في اجتماع مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات من أن قطر تخاطر بفقدان استضافتها للقوات الأمريكية إذا فشلت في تعديل سياساتها. وأكثر من ذلك قول إد رويس رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب إن قطر إذا لم تغير سلوكها في دعمها لحماس فستتعرض للعقاب. والواقع أن قطر في موقف لا تحسد عليه فإنها إذا قفزت في أحضان المحور الإيراني التركي فإنها تخاطر بمستقبلها وأمنها واستقرارها وتدخل في علاقة معقدة وغير متكافئة وتخاطر بعزل نفسها عن واشنطن وعن جيرانها في الخليج وتزيد من اعتمادها على إيران التي لا تخفي أطماعها فيها وستجد قطر نفسها التابعة لا المتبوعة لهما في ظل غطاء أمريكي لن يطول وسيُرفع يومًا وعندها تكون المعضلة الحقيقية للنظام القطري.
** **
- خالد الغيلاني