عبدالمحسن بن علي المطلق
أيام الصيام من كل عام مبتدأ:
مبارك عليكم الشهر الفضيل، وما يصحبه من النفحات الربانية المجللة بالصالحات من الأعمال وكرائم الطاعات..
من هذه نثري بمقدمه، بما بشّر به صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله: «قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنة...» الحديث (مصنف ابن أبي شيبة، وأحمد).
إذاً، ها هو أزف..
فالحمد لله أننا بُلّغناه. وتلكم إحدى منن الله علينا. وإن كنّا نستقبله بما غشانا من صارف.. لكن نرفل بكل خير لحالة نأت بنا بعيدًا عما اعتدنا، وأقصد تحديدًا ما تسببته تلك، أن ألزمتنا المنازل وتلكم (الثقيلة) ما إن كاد أثرها يقترب قبل خبرها (الكورونا)، فتُمطر سحائبها على مرابع ديارنا، إلا وقد أطّت سلفًا على مجمل الديار، أقصد أننا لسنا بدعًا! فقد جابت سائر الأمصار لكن كان لها ذوو الهمم من رجالات دولتنا الفتية أن ترصّد لها، منذ المكاشفة التي أسداها الملك صوتًا وصورة/
في بادرة الإخبار عبر حديث منه رعاه الله مفعم بالأبوّة، أو حنو الفطام على الصغير. ولا غرو؛ فهو قائد المركبة، وقد نزلت كلماته بردًا وسلامًا على الأمة؛ ليمدّ الدار وعمّارها بمظلة (توقيًا) من برده، أقصد عدواه، وذلك استشعارًا منه باكرًا لأبعاد هذا الوباء، حفظنا الله وإياكم منه ومن كل داء يأتي. هذا الشهر ليزورنا كما عهدناه من كل عام بموعدٍ (.. لا يخلفه)؛ لأنه مضروب ثابت سلفًا، وسبحان الله مهما تغيرنا.. أو غيرت من قشورنا دنيانا، إلا هو.. لأنه غير؛ إذ كلّ قد يتغيّر سواه؛ فهو الوفي كما عهدناه بطفولتنا مما علقنا من جمالياته، ووقع ذكرياته، بل إنه لتتحوّل أو تتبدل أحوالنا.. عداه، وهكذا الأحبة، فمهما أهملناهم فهم لا يهملون حظنا منهم، ولا ينقصون قسمتنا لديهم، فضلاً عن ترتيباتهم معنا. هذه المرة مرآته اختلفت؛ فالدموع لها على السفوح لموع/ أن كأننا نضام من وضعية لم نعها إلا بعد..
ما تغشتنا على غير أمنة منها، فلم نستوعب الخطب، أقصد أبعاده إلا والعالم كله اكتنفه هلع.. يئنّ، وكأنه يقف على رؤوس أصابعه لجانحة فيها من الثقل الكثير فيكفيها مثلبةً أن حشرتنا بالدور، بعد أن أغلقت علينا بيوت الله، فحسبنا من نازلة أن تحرمنا مما تواطأنا على التصعّد في التهيّؤ لاستقبال موسم هو ومن بين شهور العام طرّا الرواح به؛ فنهاره للصيام، وليله للقيام، أعني (التراويح) التي أحسبها أخذت من نص (أرحنا بها يا بلال)..
ففي تلكم من الروحانية ما يجعلها اسمًا على أجلّ مسمى؛ لأن إليها الأفئدة تركن وتستريح. آن تُلقي هناك من جمّ التباريح، بذاك الموقوت علينا أداؤه، وأزمنته المضروبة خمسًا نتعاهدها بين اليوم والليلة، فما تجد من ذي حجر يخلفها إلا من ارتضى لنفسه أن تُدخل بجراب وعيد الآية.. وقد طالت ملامة من قبله فئة {.. خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} فحسبهم أنهم {سَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي: خساراً ودماراً في العاقبة، أعاذنا الله من الاثنين العقوبة والمُعَاقب..! هناك يوم التناد لرب العباد/ الحشر.. الذي ينتظره من فرّط فيه من الحسرة والندامة..
يأتي رمضان ليرطّب أفئدة غشاها من القسوة مع الحيف كثيرًا إلى الدنيا، وإن سبقها هذا العام ما رطّب منّا كل شيء، هذا (الوباء) الذي أخذ زخما في ترويعه بل تقريع من لا يتبع طرق الوقاية، حين لا يتخذ من سُبل السلامة سلّما أجل يأتي.. بعد أن أثقل نُزل هذا (الداء) علينا، فأطال البقاء وأثقل علينا - ونحن الكرماء -.. إلا من ضيافة هذا الثقيل، فما حففناه بشيء مغرٍ ليطمع بيننا بالمقام!
وكم من التقارير المنبئة أنه أزمع رحيلاً، ولم يفعل، وأقصد ما تلوح أو تنفذ إلى مسامعنا من بوادر بشائر إلينا زُفّت، لكنها لم تفلح!
فغالب العقاقير التي للآن لم تأخذ مكانة ما (يسمن) إليه من الوقاية، أو (يغني) معه ما يحقّ لنا أن نفرح به انتصارًا عليه، لكن إلى الآن لا سبيل إلى تلك النجعة مؤديًا يأتي رمضان وقد سبقه استعداد خلاف ما كان من الناس معتادًا؛ إذ أطّ السكون..
من أنهم عن سكناهم لا يبرحون، فلا للوصل مآثر، ولا للتواصل أثر؛ فالذي لا يغبط ها هنا - لو علمتم - من.. تعوّد خيرات حسانًا في رمضان يبديها.. فحُرم من إبلاغها، بخاصة أنه..
يأتي رمضان عليه، وهو - كما لا يخفى - شهر البر والوصال والأهل والأرحام، فإذا عُقد العزم التي حيكت لتلكم أمضت كأحلام..
فلم يعد باليد دفع للحال، ولا لذي قوة.. ما يمكنه أن يتوسّل بها، فالأمر ليس فيه حيلة، فضلا عن استثناء، أو لوسيط (شفيع مطاع) إذا ما.
يأتي رمضان ليزرع بسمة على هذا الوجوم
فكفاه أن يذكّرنا بحال كنا بها نستقبله بالقلوب واليوم الأمر بالمقلوب!
فلم يجد عند الباب أحدًا.. عدا صدى تركناه هناك ليخبر عنا أننا بالداخل، فلا حاذق يتلقاه ولا لذي ذهن حيلة يستطيع بعدوها أن يسابق في الترحاب.
يأتي رمضان وقد أُخبر الملأ بأن الصلاة في دور الدنيا، وأن لا تراويح في ربوع تلك البيوت العليا تصدح.. فتشنف الآذان، وتبلغ أصواتها عنان السماء أنباء وإخبارًا بموسمه.. تصدع بلا استئذان،
ولا يماري أحد أن الخوف الذي يعشعش في خلد القوم أنهم لا يدرون بعدُ..
هل بالعيد سيجتمعون والهالة هذه قائمة، أم سيفرحون والحالة التي يواطئونها قد ستنقشع لبعض بشائر.. وإن كانت عائمة..
فبعدها لم يتبين خيطها الأبيض من ذلك الأسود الذي...! لكن (والأمل بالله قائم) أن طلائع الزوال - له- دانية، وتباشير الانفراج قِبله آنية، وهذا ما نرجو..
بإذن القائل {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}..
قال البغوي -رحمه الله-:
«يعني أن الأشياء تسهل في القدرة؛ فلا يصعب على الله تعالى شيء وإن جل وعظم»... أجل، فحسب الشيء منه سبحانه {أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. فيا مَن بيده تدبير الكون فرّج عنا هذا المكنون.
يأتي رمضان ونحن على حال فيها من العنت.. على غير اختيار منّا!
ومن يرضى أن تكون تحركاته محددة، وخُطاه محسوبة، وحريته مقيّدة، بل ذاته (هو) تحت السيطرة، لا تنفّس إلا لممًا، ولا خُطى إلا ذممًا.
يأتي رمضان ولدى كل واحد منّا غصّة داخلها سؤال يتحشرج:
هل سيذهب كما أتى..؟ أي والحال - لا سمح الله - باقية، ما لا يحرّك رممها طبّ، ولا يلج لمنافذها عقار يبهج القلوب؛ لنضرب للعيد موعدين مقدمه والجمعة به..
.. فأرتال الأمة ترتقبه؛ ليهلّ فيكونون به سُعداء.. إن زاحت الغمة عن كاهل الأمة..
فالفرحة عندئذ فرحتان، أدناها يماثل حظوه وحضوره إقبال موكب الزمان..
ألا فلندعو أن يكون الأمر كذلك علّها {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ} يا رب ألا فأكثر.. (وأنت تستقبل شهر الخير.. رمضان) ومع التوبة النصوح، وبقلب مقبل على الله إقبال التائبين المنيبين..
ممن يرجون رحمته، ويخشون عذابه
من هذا الدعاء:
اللهم اغفر لنا ما سلف وكان من الذنوب والعصيان..
اللهم إن عبادك قد أعيتهم الحيل..
وضاقت بهم دونك السبل..
وأظهروا عجزهم.. وبان ضعفهم..
وانكشف لهم من أقدارك ما لا حول لهم به ولا قوة..
فاللهم لطفك بعبادك في مشارق الأرض ومغاربها. آمين. اللهم صلّ وسلم على نبينا