د. جمال الراوي
في عام 1902 لاحظ العالم الروسي «بافلوف» أن الكلاب التي يجري عليها تجاربه؛ تبدأ بإفراز لعابها بمجرد رؤيتها الحارس الذي يقدِّم لها الطعام، وفي كثير من الأحيان، عند سماعها خطوات قدميه؛ قبل أن يصل الطعام إلى أفواهها؛ فأدرك أن رؤية الحارس لم تكن المثير الطبيعي للانعكاسات اللعابية، وإنما أصوات خطوات قدميه؛ التي تستهدي بها على قرب وصول الطعام. وفي عام 1903 قام «بافلوف» بتجربة فريدة على الكلاب؛ إذ أبقاها جائعة، مدة من الزمن؛ ثم أحضر لها الطعام، وكان يرن جرساً في كل مرة يُحضره لها؛ فلاحظ أنها تبدأ بإفراز اللعاب عند رؤيتها الطعام، المترافق مع رنين الجرس، وبعد تعوّد الكلاب على هذه الحالة؛ توقف عن تقديم الطعام؛ وأسمعها رنين الجرس فقط؛ فلاحظ سيلان لعاب الكلاب، حتى دون تقديم الطعام لها، وأسمى هذه الحالة بالـ»المنعكس الشرطي»، لأن رنين الجرس أصبح كالطعام مثيراً شرطياً قادراً على استدعاء الاستجابة الشرطية.
لاحقاً، أجرى «تومسون» تجربة على طفل رضيع؛ وضع في حضنه أرنباً أبيض اللون، فلم يثر هذا الأرنب، لدى الرضيع، أية استجابة، وفي المرحلة الثانية، بدأ «تومسون» بإصدار أصوات مرعبة؛ في كل مرة يضع الأرنب في حضن الرضيع، فيبدأ الرضيع بالبكاء والصراخ بسبب انزعاجه من الأصوات، وفي المرحلة الثالثة، وضع الأرنب في حضن الرضيع؛ دون أن يصدر أصواتاً مخيفة؛ فلاحظ أن الطفل يبدأ بالصراخ بمجرد أن يلامس الأرنب حضنه؛ بعد أن قد ترسَّخ لديه منعكساً شرطياً بأن لون الأرنب الأبيض وملمس فرائه الناعم؛ أصبح بمثابة مُحرِّضٍ للخوف بدلاً من الأصوات المزعجة، وقد قال العلماء بأنها تجربة قاسية وغير رحيمة، لأنهم لاحظوا أن عقدة الخوف من اللون الأبيض وملمس الفراء، لازمت الطفل طوال حياته؛ لأن «تومسون» لم يقم بتخليصه منها في حينها.
وقد تم إطلاق مصطلح «المنعكس الشرطي» في علم النفس السلوكي، وأجريت دراسات عديدة على هذه الظاهرة البشرية، ورأوا بأنها وسيلة تلجأ إليها كثيرٌ من الدول لإثارة أو ترسيخ مفاهيم عامة لدى شعوبها؛ إما لزرع الخوف حرصاً على تطبيق القوانين، وللحفاظ على الأمن، ويقوم بالإشراف عليها أخصائيون متخصصون في علم النفس السلوكي... ومثال على ذلك الحواجز الأمنية على الطرق وبعض الأماكن، التي قد تؤدي، في بعض الأحيان، للاعتقال والتوقيف، وقد تترافق مع نشر الشائعات عن قساوة رجال الأمن المشرفين عليها؛ فتتشكَّل لدى المواطن حالة من الخوف والرعب عند مروره عند تلك الحواجز؛ حتى قبل أن يصلها، على الرغم من عدم مخالفته للأنظمة، وعلى العكس، قد تثير هذه الحواجز الطمأنينة والراحة لديه، لأن هذه الدول التي تقوم بها؛ رسَّخت لدى شعوبها بها بأنها حواجز لتثبيت الأمن وترسيخه، وأنها لحماية المواطن وليس لإثارة الخوف والرعب عنده.
في الصغر، تترسَّخ كثيرٌ من العادات والممارسات لدى الطفل؛ فهو حين يرى والده وهو يضرب أمه؛ سوف يقوم بالفعل نفسه مع زوجته عند الكبر؛ لأنه يرى في المرأة والزوجة مادة للضرب والإهانة، وقد يضرب، أيضاً أخته أو أية قريبة له!.. والطفل الذي يرى والده يدخِّن في البيت؛ سوف يقوم بالفعل نفسه عند كبره؛ بسبب ترسّخ منعكس شرطي عنده؛ بأن التدخين يترافق مع الرجولة والقوامة في البيت! ... والطفل الذي يرى الاضطراب والهيجان في البيت؛ سيفعل الأمر نفسه مع أهل بيته في المستقبل، لأنه تعلَّم بأن صناعة البيوت والإشراف على الأسرة؛ لا بد أن تترافق مع الهمجية وعدم الانتظام!... والطفل الذي يرى عقوق والديه لأهليهما، سوف يقوم بالأمر نفسه مع أقاربه؛ بسبب تشكّل منعكس شرطي عنده؛ بأن الأقارب، يجب أن يعاملوا بقسوة وشدّة، وأنه لا ينفع معهم غير ذلك!
في علم النفس السلوكي (Behavioral Psychology) لوحظ أن جميع أنواع السلوك الصادرة عن الفرد أو الجماعة ناتجة عن التعلّم؛ فالسلوك الصحيح هو نتيجة للتعلّم الصحيح، والسلوك الخاطئ نتيجة للتعلّم الخاطئ؛ لذا تتشكَّل لدى كل مجتمع ثقافة مجتمعية؛ مبنيَّة على منعكسات شرطية، فالمواطن قد ينظر إلى حكومته على أنها حامية له، وأنها هي من تمنحه الحياة السعيدة والرغيدة؛ لذا تجد جميع المرافق العامة محمية من قبل المواطنين قبل أن تكون محمية من قبل الدولة؛ فمصباح الإنارة في الشارع، يبقى مشتعلاً وفاعلاً لسنوات عدة، والحدائق العامة تظل نظيفة وأنيقة، بينما الحالة على النقيض تماماً في بعض الدول؛ التي يرى فيها المواطن بأن هذه المرافق العامة ملكاً للدولة وليست ملكاً له؛ حيث تترسَّخ لديه عقدة الخوف والكره للقائمين على شؤون بلده؛ فتجد ولاءه لبلده ضعيفاً مع سهولة انسلاخه عنه، وهذا ما نلاحظه في حالات الجاسوسية والخيانة؛ إذ قد تمر عقود كثيرة قبل أن نسمع عن مواطن خان بلده، بينما لا ينقطع هذا السيل من البشر الذين يخونون أوطانهم ويهجرونها في بلاد أخرى!
هناك تطبيقات طبية كثيرة للمنعكس الشرطي في علم النفس السلوكي، كأن يُصاب المرء بحالة نفسية لها علاقة بهذا المنعكس الشرطي، ومنها مرض «الوسواس الاضطهادي»، وفيه قد يظن المصاب به بأن أحد أقاربه يسعى للإساءة له؛ ترتبط كل أفعال هذا القريب بمنعكس شرطي؛ حيث يرى فيه لصاً وعدواً؛ يتربص به ويسعى إلى إيذائه والكيد به دائماً! وقد يشعر الإنسان بأعراض مرضية كالغثيان أو الصداع عند رؤيته لمنظر ما، رغم عدم وجود أي تهديد له! وقد يقول المرء بأنه يكره كل من يحمل جنسية معينة، بسبب سوابق سيئة له مع أحد مواطني هذا البلد، أو لأنه سمع قصصاً من أصدقائه وأقرانه عن حاملي هذه الجنسية!... وقد تتشكَّل لدى بعض مواطني الدول حالة من الكره والعنصرية ضد أفراد دولة أخرى؛ لأنهم يعيشون كمهاجرين عندهم؛ إما لحدوث بعض أعمال العنف من قبل هؤلاء النازحين، أو لحصول أزمات اقتصادية؛ يقوم الإعلام بربطها بوجود هؤلاء! ... لذا تبيّن أن المخاوف المرضية والقلق النفسي الشديد؛ ما هي إلا عادات أو سلوكيات خاطئة مُتعلَّّمة؛ نتيجة تكرار التعرّض لمواقف مفزعة ومؤلمة... ولدى بعض علماء النفس القناعة بأن معظم الأمراض النفسية كالفصام أو «انفصام الشخصية» ليس إلا تعلماً متواصلاً لسلوك مضطرب؛ فالفصامي يتعلّم، منذ طفولته، التناقض الفكري والوجداني في البيت؛ لأنه يتلقى أوامر ونواهي متناقضة من أبويه؛ مرة يقولان له افعل هذا الشيء ومرة أخرى ينهيانه عن فعله!
يرى علماء النفس بأن نظرية «بافلوف» في المنعكس الشرطي، لها فوائد جمّة في علم النفس السلوكي؛ رغم أن «بافلوف» لم يكن يقصد من وراء تجربتها على الحيوانات؛ سوى أنها تجارب فيسيولوجية وعلمية بحتة؛ ولم يبغ من ورائها؛ أن تكون مادة ونظرية في علم السلوك البشري، ولكنها أصبحت نظرية في قواعد التربية والأخلاق في المجتمعات، وللتمييز بين الخير والشر؛ علماً بأن جميع القواعد الأخلاقية والعادات المجتمعية؛ تخضع للتعلّم في الصغر؛ فالطفل، عندما يرى وهج النار وبريقها؛ يشده هذا المنظر ويغريه؛ فيمد يده؛ يريد ملامسة لهبها؛ لكنه سوف يسحب يده باكياً عندما تصل له حرارتها أو عندما يكتوي بها، فيتشكَّل لديه منعكس شرطي أو ما يُسمى بـ»رد الفعل التكيّفي» بأن هذا المنظر المثير للنار؛ يحمل الأذى له؛ لذا تحمل معظم القوانين في المجتمعات، صفات الشدّة والقسوة، وتعدها جزءاً مهماً من العقوبة؛ لأنه لو اختفت الشدة والقسوة؛ فقدت العقوبة أثرها، ويبقى الاختلاف الكبير من مجتمع إلى آخر حول درجة قسوة الجريمة، وما تتطلبه من عقوبة؛ لذا تجد هذه الاختلافات في تعريف الانحرافات بين المجتمعات؛ فما هو مقبول وغير منهي عنه في مجتمع قد يكون جريمة تستوجب العقوبة في مجتمع آخر!
للعلم؛ فإن «أبا حامد الغزالي» أول من تحدث عن (المنعكس الشرطي) وآثاره في علم النفس السلوكي وقال: (بأن النفس الإنسانية مجبولة على الانسياق وراء الأوهام، وأن الأوهام من شأنها أن تعطي كثيراً من الأشياء صفات غير حقيقية، وذلك بسبب طول اقترانها بما أثبت العقل اتصافه بتلك الصفات). وأوضح: (بأن النفس متى توهمت شيئاً؛ خدمتها الأعضاء والأعصاب والقوى التي فيها، فتحرّكت إلى الجهة المتخيّلة المطلوبة، حتى إذا توهمت شيئاً طيّب المذاق تحلَّبت الأشداق، وانتهضت القوة المهيّجة فيّاضة باللعاب من معادنه)، ويمكن القول بأنها قاعدة تربوية مهمة، وإشارة بليغة، وأنه تعريف دقيق لغرائز النفس البشرية، كما أشار لذلك «أبو حامد الغزالي»؛ الذي يرى بأن النفس البشرية ميَّالة على الدوام، إلى اللذائذ، لذا من الواجب ربط هذه اللذائذ لدى النفس البشرية بمنعكس شرطي آخر؛ يشعرها بأن هذه اللذائذ قد تكون أذىً ومضرةً ومكروهاً؛ حتى تبتعد عنها النفس وتتجنبها.
أجرى، بالمقابل، «بافلوف» ما يشبه «غسيل الدماغ» Brain Wash، على حيوانات التجربة، حيث أخضعها إلى ظروف قاسية؛ فوضعها في أقفاص حديدية وسلّط عليها الأضواء، وعرَّضها للإرهاق، وحرمها من النوم، ومنع عنها الطعام؛ فوجد، لاحقاً، بأن أدمغتها أصبحت مشلولة، وفقدت جميع عاداتها المكتسبة؛ وقد أصبحت هذه النظرية أسلوباً لدى بعض الدوائر الدولية؛ التي تقوم بانتقاء عناصر مختارة؛ تعرِّضهم إلى ظروف قاهرة وصعبة بقصد مسح أدمغتهم من جميع الأفكار والعادات المكتسبة، وهذه الظروف قد تشمل التهديد المستمر، أو السهر المتواصل، أو النوم المتقطِّع، أو الجوع والعطش الشديدين، أو تناول بعض الأدوية؛ التي ترهق خلايا المخ وتوصلها إلى الحافة الحرجة؛ بحيث يصعب عليها أن تحتفظ بما تعلَّمته وبالتالي يتم غسيل الدماغ؛ الذي يعاد تلقينه عادات وأفكاراًً جديدة، وتوجيهه للقيام بأعمال مختارة، أو توجيهه للاعتراف بجرائم لم يرتكبها!
ويمكن القول؛ بأن الظروف المعيشية والبيئية؛ تلعب دوراً مهماً في تنشئة أفراد المجتمع، وهي منعكسات شرطية على هذه الأحوال القاسية؛ لذا تكثر الجرائم والانحرافات الأخلاقية في المجتمعات؛ التي ينتشر فيها الفقر والبطالة والأمراض وتعد غسيلاً لأدمغتهم؛ بسبب اختفاء المعتقدات الطيِّبة والأخلاق الحميدة من أدمغة المنتمين لهذه المجتمعات؛ التي تمّ غسلها بسبب هذه الأحوال الصعبة، وقد فطنت كثيرٌ من المجتمعات إلى هذه الظاهرة، ورأت بأن تنشئة المواطن السليم يجب أن تترافق مع تأمين بيئة نظيفة له؛ تلبي حاجاته الفطرية وتحميه من الفقر والمرض... نعم، عندما ينشأ الأطفال في بيئة صحيحة؛ سيكونون سواعد حقيقية لبناء مجتمعاتهم والحفاظ عليها، ولن يخونونها أبداً.