د. صالح بن محمد اليحيى
في خضم الأحداث المتلاحقة التي تسيطر على عالمنا خلال هذه الأيام التي تصنع للبشرية تاريخاً جديداً، ومع تزايد المطالبة بالبقاء في المنازل للحد من تفشي الوباء؛ يتعاظم يوماً بعد يوم وساعة بعد أخرى دور عالم الافتراض والتعامل عن بعد؛ حيث يبدو بأن ذلك سوف يصبح أحد أهم معالم عالم ما بعد كورونا.
وعالم الافتراض والتعامل عن بعد وإن كان يدشّن بدايته الحقيقية الجادة خلال تلك الأيام ليبرهن على أحقيته في تبوُّءِِ مكانته التي يستحقها في زمننا هذا كتطور منطقي لإنجازات البشرية وما حققته من تقدم تقني غير مسبوق؛ إلا أنه كان قد بدأ بالفعل بدايته الأولى منذ زمن ليس بالبعيد فارضاً سطوته في العديد من أوجه حياتنا المعاصرة؛ وإن كنا في خضم معترك تلك الحياة نكاد لا نرصده. إذ اعتبرناه وسيلة أو أداة من باقي أدوات تعاملاتنا؛ ولعلنا نسوق بعض من الأمثلة والنماذج لما تغير في حياتنا نتيجة لدخول عالم الافتراض فيها منذ زمن دون دراية تامة منا؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر ما شهدته صناعة بناء المنازل في الغرب مع تراجع أواصر العلاقات الاجتماعية الحميمية بين الناس نتيجة لما أحدثته وسائل الاتصال المتطورة؛ ليتم إلغاء الكثير من الفراغات الوظيفية داخل المنازل الحديثة من قاعات استقبال الضيوف وما شابه، كما بدأت المباني الإدارية والبنوك في إلغاء الكثير من فراغاتها كذلك كقاعات التعامل مع الجمهور بسبب الإمكانات الهائلة التي أتاحتها شبكة المعلومات من إمكانية الحصول على الخدمات أو معرفة حركة الأرصدة من دون التحرك من أمام شاشة الحاسوب في المنزل، أضف إلى ذلك التسوق الإلكتروني الذي أصبح وعن جدارة نجم تلك الأيام بعد أن شمل أبسط الأغراض والاحتياجات اليومية من مأكل أو مشرب.
فما الحاجة الآن إلى تلك المتاجر والأسواق الضخمة العملاقة، ويبدو أن قطاع البريد قد سبق الجميع بعد أن تطورت إمكانات البريد الإلكتروني، فهل أرسل أحدكم خطاباً أو اشترى طابعاً للبريد منذ زمن؟.. وهل يتذكر جيل بأكمله طوابع البريد؟!
ومع ذلك التقدم الذي تم إحرازه في تلك الجبهات وعلى هذه الأصعدة؛ يبدو التقدم المحرز في مجال التعليم الإلكتروني لا يبارح محله منذ سنين؛ وذلك على الرغم من أننا قد أشرنا في مقال سابق بأن التعليم الإلكتروني يكاد يكون أحد المستفيدين القائل من بلاء تلك الجائحة؛ فلا زال التوسع في تشييد مباني المؤسسات التعليمية العملاقة بقاعاتها المتعددة وإلحاق المدن الطلابية بها قائماً لاستضافة الطلاب وإقاماتهم بعيداً عن ذويهم في نمطية مستمرة لما بدأ به التعليم الحديث منذ قرون وعقود عدة خلت، وإن كان الأمر لا يخلو من النذر اليسير من دعوات مظهرية أو فئوية لإطلاق بعض ما سمي بإدارات أو حتى عمادات التعليم الإلكتروني لتكون تابعة لتلك المؤسسات التعليمية التقليدية الراسخة بأجهزتها وقياداتها التي شبت حتى شابت على النمط والنمطية، حيث لا يجرؤ أحد على المطالبة بها لتصبح كيانات مستقلة بعيداً عن سطوة تلك المؤسسات النمطية؛ لتأتي تلك الجائحة لتدفع بالتعليم الإلكتروني وبقوة إلى الواجهة ليأخذ دوراً مستحقاً في العملية التعليمية بعدما صارت بيوتاتنا منصات لتلقي العلم شأنها في ذلك شأن باقي مجالات الحياة التي تقدمت، ولتفضح أمر تلك العقول العاجزة التي كانت على الرغم من تشجيع الدولة لذلك النوع من التعليم تأبى أن تتغير لتلاحق عجلة الزمان بتعليمها النمطي الجامد المؤسس على التلقين والمبني على اختبارات سردية ومقالية نمطية تقيس قدرة الطالب على الحفظ لا على الفهم والاستيعاب في زمن يتطلب عقول متفتحة نمتلك منها ولله الحمد الكثير والكثير؛ لذلك ومن مطلق الحرص على دفع تلك التجربة الرائدة لاسيما في مملكتنا السباقة إلى الأخذ بكل ما يلزم لتطوير المجتمع فإن المرحلة المقبلة في مجال التعليم تتطلب وقبل كل شيء رجالاً يدركون ماهية فلسفة التعليم عن بعد واحتياجاته، حيث تقوم تلك الفلسفة بالأساس على فهم واستيعاب لغة العصر من خلال ذلك الكم الهائل المتاح من المعلومات لا حفظها، فللحفظ في زمننا أماكن أخرى غير العقل البشري الذي لابد وأن يوجه لإدارة تلك المعلومات والاستفادة منه وتوجيهها التوجيه الأمثل لا حفظها، فالعالم يتغير من حولنا ونحن كذلك بقياداتنا الواعية وقدراتنا البشرية قبل المادية نستطيع كذلك التغير.. إلا قليل ممن جمد زمانهم، ففاقد الشيء لا يعطيه.