سأعترف بِكِبَر سنِّي لا عن رضاي، ولكن السياق سيجعل القارئ يعرف أني «شايب»؛ لأني سأعود به إلى زمن ذكّرني به وباء «كورونا» الذي أجبر «عباد الله» على اتخاذ احتياطات وقائية، فُرِضت معظمها من قِبل الدولة لحماية الناس من هذا الوباء الخبيث. وكلنا يعرف أن من ضمن تلك الاحتياطات الوقائية إغلاق «صوالين الحلاقة»؛ وهذا ما أعادني إلى ذلك الزمن الذي لا توجد فيه صوالين حلاقة. وفي مجتمعي الذي أعيش فيه كانت هناك طريقتان، إحداهما عندما أصبح أو يُصبح أحد من أفراد الأسرة «الذكور» «مكعّش»، أي غزير شعر الرأس أكثر مما يجب، أو بعبارة أخرى «شَعره كاشر»، فإنه يتم استدعاء «المزَيِّن» الذي يأتي - حسب ما أذكر - وبيده شنطة خشبية أو جلدية، ضمن محتوياتها «موس» أو «موسى» كما هو اسمها العربي الفصيح، ومع الموس «مِسَن»، أعتقد أنه قطعة حجرية، أحد جانبَيْها ناعم جدًّا، تُسن عليه تلك الموس، وفي إحدى زوايا المنزل البعيدة عن الأثاث يجلس الشخص الذي يريد أن يحلق رأسه، ويبلل شعره بالماء، وبرغوة الصابون، ومن ثَم يبدأ المزيِّن الحلاقة إلى أن يترك الرأس المحلوق «قاعًا صفصفًا»، وعادة بعد الحلاقة ربما يلقاني شخص أو أكثر ويسألني: من «دبّع لك؟ أو متى دبّعت؟»، أي من حلق لك؟ أو متى حلقت؟ ثم يغافلني ويصفعني بكفِّه على صلعتي وهو يقول: «يا مدَبّع سلّفني أربع».
أحيانًا أي فرد من العائلة (الأب ، أو العم ، أو الأخ ... إلخ)، وأحيانًا بعض الأصدقاء يتكرمون بالقيام بما يقوم به المزيِّن، ولكن ليس بالموسى، وإنما بشفرة من شفرات الحلاقة التي تباع في «الدكاكين» آنذاك، ويسمونها «لامه»، وكلا الطرفين عندما يصل أحدهم إلى مؤخرة الرأس، ويتحسس بأصابعه الحفرة الموجودة في تلك المنطقة، فإذا ما وجد أنها عميقة قال لصاحبها من باب الدعابة: «أثارك كذاب كبير»؛ لأن ذلك في الموروث الشعبي لدينا، أنه كلما كانت الحفرة عميقة كان صاحبها في الكذب لا يُسبق، ولا يُلحق. هذه الخواطر تذكرتها الآن بعد أن «كَعِّشْت»، ووجدت شعر رأسي «كاشرًا»، ولم أجد بسبب كورونا صالونًا أدَبّع شعر رأسي فيه؛ الأمر الذي جعلني أبحث عمّن يُدَبِّع لي. ولأن كل الأصدقاء صاروا يخافون من بعضهم فلم أجد إلا نفسي عندما أمسكت بشفرة الحلاقة، ورحت أمسح رأسي طولاً وعرضًا؛ لأجد في النهاية أني قد أسلت دمائي بما يستحق معه أن أعرض نفسي على طبيب، ولكن ذلك كله لم يهمني بمقدار ما تحسست عُمق مؤخرة رأسي التي أوحت لي بهذا السؤال: هل أنا كذّاب بمقدار العمق الذي غاصت فيه أصابعي؟
** **
- إبراهيم مفتاح