أ.د.محمد بن حسن الزير
تحت وقع تلك الأحوال النجدية العنيفة البائسة، وضغطها القاسي، بعد سقوط الدرعية، لم تكن الدرعية، وحدها التي عانت الآثار المأساوية لغياب الدولة فقد قدَّر الله وقضى سبحانه وتعالى أن يبتليَ المسلمين في (نجد) بوقت عصيب سادت فيه الفوضى والاضطراب؛ ووقع الظلم بين الناس، وتقاطعوا الأرحام، وساءت أحوال الأمن والاستقرار، واضطربت حياة الناس الدينية والسياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية؛ وذلك حين غابت دولة الشريعة والنظام عام 1233هـ؛ حين تكالبت قوى الشر على دولة التوحيد في الدرعية بقيادة (إبراهيم باشا).
وبسبب تلك المأساة بسقوط الدرعية، نشأت فورة من الفوضى والفتن وصاحب ذلك كثير من القتل وسفك الدماء والابتلاء، والنهب، والقطيعة، وما ترتب على كل ذلك من استضعاف وأمور أخرى، في حياة الأفراد والجماعات؛ وفي هذا السياق نذكر ما دوَّنَه ابن بشرفي عنوانه (1/212) عن تلك (الأحوال والأهوال):» قلت وانحل فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة، وعُدِمَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة، وُعمل بالمحرمات والمكروهات جهرا.. وسُل سيفُ الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وتطاير شر الفتن في الأوطان، وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد، فلم تزل هذه المحن على الناس متتابعة، وأجنحة ظلامها بينهم خاضعة..».
وقال أيضا (2/4-5): «.. فلما حل القضاء وانتهى الأمد المكتوب وانقضى، انحل نظام الجماعة، والسمع والطاعة، وتطايرت شرر الفتن في تلك الأوطان، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وعاثت فيها العساكر المصرية فقتلوا صناديد الرجال، وصادروا أهلها فأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وقطعوا الحدائق الظليلات، وهدموا القصور العاليات، وصار أهل نجد بينهم أذل من العبيد، وتفرقت علماؤهم وخيارهم ما بين طريد وشريد، وثارت في غالب البلدان الفتن والقتل والقتال والمحن، وظهر المنكر وعدم الأمر بالمعروف، وصار الرجل في جوف بيته (وَجِلٌ مَخُوفٌ) وتذكروا ما بين أسلافهم من (الضغائن الخبيثة القديمة، وتطالبوا بالدماء)؛ فكل منهم يطلب أولادَ أولادِ غريمِه؛ فتقاتلوا على سُننٍ ما أنزل الله بها من سلطان..».
ويقول أيضا (1/218): «.. وقعت الحرائب في نجد، واشتعلت فيها نار الفتن، وكثر القتلى بينهم، وتقاطعوا الأرحام، وتذاكروا الضغائن القديمة من البغي والإثم، فتواثبوا بينهم، وقتل بعضهم بعضا في وسط الأسواق، ونواحي البلدان، فكان كل أهل سوق وأهل بلد يمشون بجمعهم وسلاحهم دائما في الليل والنهار...».
وجاء في (الأطلس التاريخي للدولة السعودية؛ للدكتور إبراهيم جمعة، في وصف هذه الحالة ص98): «وبعد سقوط الدولة السعودية الأولى.. سادت في نجد الفوضى والاضطرابات وكثر الاختلاف، وعمت الفتن، وانتشر الخوف، وانقطع الاتصال بين القرى والبلدان، وحلت الضائقة بين الناس في أموالهم وأنفسهم».
وعودة هذه الحالة من الفوضى والانقسام والفرقة، تذكرنا مرّة أخرى بحالة نجد والجزيرة العربية بعامة، قبل ظهور الدعوة الإصلاحية في الدرعية، التي ناصرتها الدولة السعودية الأولى، في القرن الثاني الهجري، ويحدثنا عن صورة تلك الحالة البائسة؛ حسين خلف الشيخ خزعل في كتابه (تاريخ الجزيرة العربية ص39- 40) فيقول: «وما كاد يحل القرن الثاني عشر الهجري حتى انتشرت الفوضى في نجد، وعم الانقسام، وتوسعت الفرقة، وتفرقت الكلمة، وتعددت الإمارات والمشيخات؛ فكانت الإمارة في العيينة لآل معمر، وفي الدرعية لآل سعود، وفي الرياض لآل دواس، وفي الأحساء لبني خالد، وفي نجران لآل هزال، وفي القصيم لآل حجيلان، وفي حدود نجد الشمالية وجنوب العراق لآل شبيب، هذا بالإضافة إلى وجود عدة إمارات ومشيخات أخرى صغيرة في غربي نجد وفي وادي الدواسر، وفي قحطان، وغيرها، وربما قسمت القرية الواحدة بين عدد من الرؤساء.
«وقد كانت جميع هذه الإمارات والمشيخات في حالة غير طبيعية، وبدون استقرار، والفوضى سائدة في ربوعها، والفتن متراكمة فيها، تخبو تارة ثم تعود إلى الظهور في أول فرصة مناسبة.
«والخلاصة لم يكن لتلك الكتل البشرية، نظام سياسي معروف، ولا مدنية بيّنة؛ فجميع الأنظمة والشرائع كانت لديهم مجهولة، أو أكثر من مجهولة، وكانت الفتن متراكمة كتراكم السحاب، والعداء سائدا وشاملا جميع جهاتهم، والحروب بين الحكام قائمة دائما كأنها جزء من طبيعتهم.
«وكانت البلاد تعيش أبدا في رعب دائم، وخوف غير منقطع، من جراء عدو يأخذ بالقهر، وحليف يأخذ بالغدر، ولم يكن للسكينة والحرية والأمن والراحة مقرّ في تلك البلد.
«ففي الحروب المستمرة تقتل الأبناء، وتدمر المباني، وتقطع الأشجار، وتتلف الزروع. وفي فترة السلم (إن كان هناك سلم) يحبس الناس في بلدانهم، لا يستطيعون الابتعاد عنها، إلا لمسافات يسيرة، لأن الطرق لم تكن مرصودة، ولا مؤمنة، من غزو القبائل البدوية» وكان مما قاله أيضا (ص39): «وكانت (سياسة الدولة العثمانية يومئذ تحبذ هذه الحالة، وتسعى لانتشارها، وتشجع بدورها بعض حكام السوء، وتناصرهم، وتشد أزرهم) ليسود الجهل، وتنتشر البدع، ويُتَهاون في أمور الدين، ليبقى ذلك الشعب رازحا تحت نير عبوديتها، أطول وقت ممكن». وللحديث صلة.