د عبدالله بن أحمد الفيفي
قال لي صاحبي «الراديكالي»، وهو يحاورني في الحَجْر الصحي من «كوفيد-2019»- عليه، أي الفيروس، من الله ما يستحق!- وبيني وبينه، أي صاحبي، مسافة 4692 كم:
- إذا كان قد ظهر ما يشبه «باب سدِّ الذرائع» في الفقه الأوربي المعاصر، فإنه يظهر، بين وقت وآخَر، أُفهوم «الخصوصيَّة» أيضًا، الذي كنَّا نندب حظَّنا منه، ظنًّا أنه صناعةٌ محليَّةٌ صِرفة، فتبيَّن أنه صناعةٌ فرنسيَّة غير صِرفة.
- كيف؟
- الليبراليَّة الفرنسيَّة لها خصوصيَّتها العلمانيَّة «اللائكيَّة»، المسعورة تاريخيًّا، المختلفة عن العلمانيَّة البريطانيَّة أو الأميركيَّة، تمامًا كما تدَّعي الثقافات ذات الخصوصيَّات العنصريَّة!
- الواقع أن أوربا، والغرب عمومًا، ليسا علمانيَّين أحيانًا، إلَّا حينما يتعلَّق الأمر بالعرب والمسلمين. في ما عدا ذلك فمعظم مواقف الغرب وخطاباته لا تخلو بإطلاق من أصوليَّة متشدِّدة.
- في حضور مناقشة مع أحد الدبلوماسيِّين الفرنسيس كان يحتجُّ، مثلًا، بأن تعدُّد الإثنيَّات، وتنوُّع المهاجرين، يهدِّد الوحدة الثقافيَّة الوطنيَّة الفرنسيَّة، والقانون الموحِّد للبلد. فقلتُ له: ثكلتكَ أُمُّك! بل إن التعدُّد يثري الثقافة، والتنوُّع مصدر ثراء، والوحدة ليست في تنميط البشر، وإلباسهم زيًّا واحدًا أو خلع ثيابهم، بل الوحدة تتجسَّد في التنوُّع؛ أمَّا حين يُصبِح الجميع شيئًا واحدًا، فلا وحدة حينئذ، بل واحد، وفرق بين الوحدة والواحد، أو بالأحرى بين الوحدة وفرض النمط الواحد!
- قلتَ له: «ثكلتكَ أُمُّك!»؟ وسكت؟! ما علينا.. لكن أليس مبدأ فصل الدِّين عن الدولة جاء لضمان الحُرِّيَّة والتنوُّع وحقوق الجميع تحت سقف المواطنة، دون تغوُّل دِينٍ على غير أتباعه؟
- الآن باتت الحاجة إلى فصل الدولة عن الشعب، وتحرير الحُرِّيَّة من تلك الحُرِّيَّة المزوَّرة؛ لأن الدولة قد تتحوَّل هناك إلى دولة دِينيَّة أخرى، تقمع، وتصادر الحُرِّيَّات، وتتدخَّل في خصوصيَّات الآخَرين، بل تتدخَّل في لباس الآخَرين، وهو ما لم يسبق له مثيل في التاريخ. أي كأن الدولة العلمانيَّة أصبحت ضدّ الحُرِّيَّة، بل ربما أشد خطورة من الدولة الدِّينيَّة على الخيارات الإنسانيَّة، وأعنف استئصاليَّة لمخالفي إديولوجيَّتها.
- إذن، الآن نحتاج إلى فصل هذا النوع من الدولة عن الشعب، وذلك لضمان الحُرِّيَّة والتنوُّع وحقوق الجميع تحت سقف المواطَنة، دون تغوُّل المؤدلجين وأصحاب المصالح والمناصب، على حُرِّيَّات سائر الشعب في التمتع بخياراتهم الإثنيَّة والدِّينيَّة والثقافيَّة والشخصيَّة، ما دامت لا تؤثِّر على الأمن العام وحقوق الآخَرين؟
- أعتقد ذلك. إنَّ هذه الظواهر من الاختلافات لا تثير حساسيَّة في (بريطانيا) أو (أميركا) كما تثيرها في (فرنسا) وفي بعض دول الاتحاد الأوربي، التي لحقت، منذ 2010، بركب التخلُّف لتحديد ما يلبس الناس وماذا يخلعون.
- لماذا؟
- بطبيعة الحال هناك حُجج عنكبوتيَّة سياسيَّة جاهزة، أوهَى من بيت العنكبوت الحشرة، وإنَّما القضيَّة في جوهرها نعرةٌ سياسيَّة، لا تخلو من أبعاد دِينيَّة، تفجَّرت منذ 11 سبتمبر، بدليل أنك ترى أشباح الراهبات في بعض المدن الأوربيَّة يَسِرن بحجابهنَّ في الشوارع، فلا تُستنفَر هنالك حالات الطوارئ، أو تُعقَد البرلمانات لاستصدار قرارات ضدهن.
- فأين بيت الداء، إذن؟
- إنَّه في التمييز العنصري، والتمييز الدِّيني والثقافي. ويتجلَّى هنا التمييز في صورته المركَّبة؛ حيث يتبيَّن أن الإشكال ليس في اللِّباس، بل في ما يشير إليه اللِّباس، فإنْ كان يشير إلى المسيحيَّة، أو إلى تقاليد ثقافيَّة غير إسلاميَّة، كلباس الهنديات، كـ(الساري)، أو الزيِّ البريطانيِّ التقليدي، الذي كان يتضمَّن تغطية الكفين بالقفازات، فأهلًا وسهلًا، هو أمرٌ عاديٌّ ولا مانع، بل هو مميَّزٌ وجميل، أمَّا حين يعبِّر عن بعض التديُّن الإسلامي، فممنوعٌ منعًا باتًّا، ولا كرامة!
- لكنَّ هناك من يزعم بأن الأمر في فرنسا- مثلًا- كان لا يعدو تنظيمًا مدرسيًّا، في مراحل الدراسات الدُّنيا؛ فيُمنع ارتداء الحجاب فور وصول الفتاة إلى المدرسة ويُسمَح به بعد مغادرتها المدرسة. والسبب منع استعمال أيِّ شعارٍ دِيني، وهذا يطبَّق على المسلم والمسيحي واليهودي وغيرهم.
- يا حليلك! حسنًا، يبدو الكلام منطقيَّا، ومبرَّرًا إلى حدٍّ ما. لكن أ هو صحيح؟
- لا أدري.
- أوَّلًا، الحجاب ليس شِعارًا دينيًّا إسلاميًّا، بل فيه آراء مختلفة حتى بين المسلمين أنفسهم. فليس كالصليب، على سبيل المثال. وربما لبسته غير المسلمة لسببٍ أو لآخَر؛ من حيث هو ثقافةٌ اجتماعيَّة. وهو ثقافةٌ سابقةٌ على الإسلام أصلًا، وكان يُعرَف في بلاد الشَّام قبل الميلاد بقرون.
- ميلاد مَن؟
- ميلاد المسيح.
- ... على بالي ميلادك أنت!
- وكانوا يسمُّونه، حسب اللغة الأكديَّة: (كتموم). بل كان مستعمَلًا بصورةٍ أو بأخرى في الغرب نفسه، وإلى قرونٍ متأخرة.
- يعني أنه قد يكون مجرَّد زِيٍّ في الأساس، ولا يعني رمزًا.
- إلَّا إذا اعتُدَّ كلُّ ما يذكِّر بالثقافة رمزًا دِينيًّا. والأمر الآخَر أنَّ ذلك الموقف من الحِجاب هو ثقافةٌ عنصريَّة، وليس تنظيمًا إجرائيًّا في بعض المؤسَّسات، كالمؤسَّسات التعليميَّة، كما يزعمون. هو ثقافةٌ عنصريَّةٌ- لا تُنكَر- أُجِّجَت لعوامل سياسيَّة، ووَفق سياقات لا تخفَى على أحد.
- لا، وأنت الصادق، أنا ممَّن تخفَى عليه!
- ثمَّة نعرةٌ إقصائيَّةٌ أُوقِضَت في الشوارع والأوساط الاجتماعيَّة الأوربيَّة، وحتى في بعض الشوارع العربيَّة بالتبعيَّة. فما أمامنا حِجابٌ غربيٌّ ضِد حِجابٍ شرقيٍّ، ببساطةٍ شديدة. وما أشبه إديولوجيات الليلة بما قبل البارحة!