فيصل خالد الخديدي
الكتابة حول الفن وعنه إبداع موازٍ لإبداع الفنان، وحالة إبداعية باحثة، تصدر من ذات مفكرة، وعين فاحصة، تمارس حقها في التنقيب داخل المنجز الفني ومُنجِزهُ وحوله، واستنطاق النصوص البصرية الإبداعية، والكتابة عنها بمستوى آخر من اللغة، لها مفردات وأدوات، تختلف عن اللغة الأم للنص البصري. وهي مهمة شاقة، ليست بالهينة، وتتطلب الكثير من المعرفة والإلمام بأمور عديدة، مثل تاريخ الفن، وأسس النقد الفني، ومدارسه، والغزارة في المفردات اللغوية، وسعة الاطلاع في علوم العصر، والحيادية في الطرح، والتنوع في المعالجة؛ لأن الكتابة أمانة، وتبقى وثيقة تاريخية شاهدة للكاتب أو عليه, وموثقة لفترة فنية زمنية، وحافظة لمسيرة الفنانين وتأثيراتهم وأثرهم على الممارسة الفنية في حينه. وكم من فنان لم يكن لأعمالهم وإبداعاتهم أن تصل وتنتشر للعالم لولا توثيق وكتابة موازية لإبداعاتهم, سواء بكتابة من خلال كتاب، أو مقالات، أو دراسة تحليلية منهجية. فعلى سبيل المثال: الفنان المصري عبدالهادي الجزار بالرغم من قِصَر عمره الفني الذي بلغ عشرين عامًا من العمل الفني الجاد، لم يكن للمتلقي والمتابع ليكتشف أثره على الممارسة التشكيلية بمصر لولا الكتابات والدراسات والأخبار الصحفية عنه، التي بلغت 182 مقالاً ومادة صحفية في السنوات الثلاث التي تلت وفاته، بخلاف المواد الإذاعية والبرامج التلفزيونية, إضافة إلى كتاب ضم أكثر من ثمانين عملاً من أعماله، أُصدر بعد وفاته، وآخر أُصدر بثلاث لغات بعد رحيله بخمسة وعشرين عامًا. كل هذه الجهود وغيرها من دراسات وقراءات وثَّقت ورصدت تجربة فنان ثرية وغنية، أثرت الساحة التشكيلية المصرية.
وعلى المستوى المحلي فإن عددًا من الفنانين المؤثرين مرت تجاربهم دون أن تحظى بشيء من الاهتمام المستحق، ولا القراءة المتعمقة، ولا حتى بعض المقالات.. فالاهتمام بالكتابة التشكيلية محليًّا ظل متذبذبًا، وبجهود يغلب عليها الذاتية ومحدودية الكُتّاب، وندرة المتخصص منهم، وضَعْف التشجيع والدعم لهم رغم قِلتهم, وشح المنصات الحكومية والخاصة التي تتبنى الكتابة عن الفن، ودعم الكتاب التشكيلي وطباعته. وبرصد أولي لعدد الكتب التشكيلية المطبوعة في الساحة المحلية لم يتجاوز عددها إلى الآن مائتي مُؤلَّف بين رصد تاريخي وقراءات في تجارب فنانين، وكتب توثق مسيرة فنان.
إنَّ غياب دور عدد من الوزارات المعنية بنشر الثقافة الفنية ودعمها، بعد أن كان لها وجود، يعطي مؤشرًا أن مثل تلك الجهود كانت مشاريع فردية لمسؤول آمَن بالفن وثقافته، وغاب المشروع بغياب صاحبه؛ فالرئاسة العامة لرعاية الشباب كان لها دور، ومطبوعاتها التي لم تصمد كثيرًا، وأيضاً وزارة الإعلام قدمت عددًا من الكتب في فترات متقطعة، ولكنها لم تكن بالكثافة والحجم المطلوب ليوثق مسيرة فنية متسارعة ومتنامية، وهو ما ينسحب أيضًا على وزارة التعليم التي قدمت بعض الكتب والإصدارات النادرة التي لم تستمر رغم جودتها وثرائها فنيًّا، وبعض الجهود من عدد من الجامعات وأقسام التربية الفنية لم تستمر أو تظهر بشكل مشروع يهتم بالكتابة عن الفن التشكيلي المحلي، ويرصد فنانيه. وكذلك الصحف المحلية بدأت الصفحات التشكيلية فيها في انحسار، وكتّاب الرأي في الشأن التشكيلي في تناقص وتسرب من الكتابة رغم قِلتهم؛ وهو ما يعني أننا أمام أزمة حقيقية، لن نلمس نتائجها السلبية إلا بعد سنوات، يُفقَد فيها الكثير من المصادر التاريخية لمسيرة الفنون التشكيلية المحلية، يصاحبها رحيل فنانين أصحاب تجارب، لم توثَّق تجاربهم، ولم يُكتب عنها بالشكل المستحق, إضافة إلى هجر الكتابة في الشأن التشكيلي لعدم وجود محفزات ومشجعات لاستمرار الكتابة في الشأن التشكيلي. ويبقى الأمل معقودًا بشكل كبير على وزارة الثقافة في تبني دعم الكتاب التشكيلي، ودعم توثيق أعمال الفنانين، والكتابة عنهم بجميع مستوياتهم، وأن يكون هناك مشروع جاد ومنهجي، يجمع الكُتاب في الشأن التشكيلي، ويدعم الكتاب التشكيلي، ويصدره بكل الوسائط المتاحة، وبلغات مختلفة؛ فالفن التشكيلي المحلي يستحق الكثير من الاهتمام.