د. حسن بن فهد الهويمل
في ظل هذه النازلة، التي أرهقت، وأزهقت، وأخافت، وأذلّت، يتضاعف الملل، والضجر، ويفر المرء إلى المسكنات؛ ليفيض منها على مشاعره المرهقة؛ ما يبعث فيها السكينة، والتسليم.
المواطن السعودي لم يألف هذا الحجر، ولا هذا الحظر؛ لأنه يعيش الاستقرار السياسي، ويتمتع بالحرية المنضبطة = حرية الإسلام، ولا يعرف الشعارات الزائفة المخدرة التي أضاعت الجهد، والوقت، والمال. واستعدت الأعداء لضرب الأصوات النشز.
في هذه الحياة التي لم نألفها يبحث كل إنسان منا عما يخفف عنه ويلات العزلة، وطول القرار.
ولكل إنسان طريقته، وإمكانياته المتاحة لمواجهة الظرف الطارئ.
من جهتي أجد خلاصي من هذا العناء في شيئين في:-
(الصحراء)؛ لأني أجد فيها ملاذاً آمناً؛ فهي الأرحب، والأنقى؛ آفاقها واسعة، والعزلة فيها تامة، والرفقة تملأ الفراغ.
كما أجده في (مكتبتي)؛ أدخلها ساعة من نهار، أطوف في حقولها، وأنظر في كعوب الكتب، أجدد معلوماتي، وأثير كوامن رغباتي.
دخلتها بالأمس، وقضيت فيها ثلاث ساعات، كأنها دقيقة، أو بعض دقيقة، أجوب أرففها، لا أحس بتعب، ولا أشعر بملل.
حقول معارف، وأفكار ثاوية، مصفدة داخل الأغلفة، في أجواف الحروف، ونضد الكلمات.
و(ك ت ب) جذري عني الخيط:- (واكتبها بأسياري) أي خطها.
في ظل الضوائق النفسية يبحث الإنسان عن الحقول الخفيفة، الممتعة، بحيث لا ترهقه الحقول الجادة كـ (الفلسفة) و(الفكر) و(علوم الشريعة)، والآلة (كالنحو، والصرف) و(النقد، واللغة).
لقد وجدتني مسمر القدمين أمام حقل طريف خفيف، حقل (ذوي العاهات) من المبدعين. إنه بحق حقل مهم، وممتع. كتبه مهمشة، على الرغم من امتلائها بالفوائد، والفرائد.
شعراء مجانين، وعُمي، ومتطفلون، حكاياتهم، وأخبارهم، وأشعارهم مليئة بالحكم، والسخرية المرة من الحياة، والأناسي، ولاسيما أن (الجنون) عند (الحداثة) أصبح اليوم نظرية لها أبعادها، وأصبح الجنون معادلاً للعبقرية.
لقد وقفت عنده:- (وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه)، ووجدت أساطين هذا الحقل من مجاذيب (المتصوفة)، ومن شعراء الغزل العذري كـ(مجنون ليلى) وأضرابه.
الأجمل في هذا الحقل الحديث عن (عقلاء المجانين)، والدراسات التي أقيمت على الصورة الفنية عند الشعراء العميان. ومن يجهل براعة الصورة عند (بشار بن برد) وهولة الأعمى الشعوبي الماجن.
خرجت، وفي جعبتي فيض من النوادر، واللطائف الممتعة، قد نعود إليها يومًا (ما).
ما أستغربه عيش من لا يقرأ؛ كيف يقضي فوائض الوقت، ولاسيما في ظل الظروف الطارئة؟!
من عجائب الحياة وغرائبها أن القراءة عديل التجربة الواعية.
هناك عباقرة ليسوا من القراء، ولكنهم عقلاء، دقيقو الملاحظة، يتدبرون الأحداث، ويفلسفون الظواهر. إنها مواهب، لكن تظل القراءة مصدر كل معرفة، ولأهميتها كانت كلمة (اقرأ) أول صلة بين السماء، والأرض..!