ومن جدل (الفكر والآخر) المنتهي بسيادة الرأي الأوحد دون اعتبار للآراء الأخرى, مهما كانت منطقيتها ووجاهتها, ينتقد السهيمي الجدالات العقيمة الدائرة بين بعض شرائح المجتمع العربي؛ نابذاً الأفكار المتطرفة, مسقطاً مقولة (الفكر يقارع بالفكر) التي خالفها المنظرون لها (الواعون), حين انقلبوا على مبادئهم».
لم يكتفِ السهيمي بنقد المثقفين المزدوجين, إنما يلج رحاب السلطة الثقافية التي يراها سلطة مزدوجة ناعمة ظاهرياً, مستبدة ضمنياً, ويؤكد وجود تصنيفات على الساحة العربية على شاكلة (إرهابي,تكفيري, متطرف, إقصائي, وهابي, إخواني, صحوي, حركي), أنتجت في مطبخ سلطة المثقفين, ولم تتوقف عند حدود التصنيف, وإنما تخطته إلى الوشاية والاستعداد والإقصاء وصولاً إلى الغايات القصوى, والتاريخ يشهد على حالات إقصاء وتحريض مارسها مغالو السلطة الثقافية بحق المختلف معهم وآتت أكلها.
وفي منحى وجودي آخر يذهب السهيمي بعيداً في قلقه الفكري؛ فيرى حجم الأثر الذي خلَّفه (منهج الشك) لكل من الغزالي وديكارت في أذهان الأتباع كبيراً, خصوصاً ما يتعلق بالإله الحقِّ ونشأة الكون والحياة وعالم ما بعد الموت. ويؤكد أن لا علم بشرياً حظي بالاختلاف حوله والجدل فيه كالذي حظي به علم الفلسفة؛ فالفلسفة كان موضوعها الغيبيات, أو بما يعرف بما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) كالوجود الإلهي, وبدء الخلق والموت والفناء والخلود. وقد أيقن أن من جنى على الفلسفة هم منظروها الذين ألبسوها لباس الخوارق, وحولوها إلى طلاسم وألغاز ما جعل الكثير ينفر من مجرد ذكر اسمها.
وقد تطرَّق إلى فكرة غاية في الأهمية وهي ثنائية (النور والتنوير). والعلاقة التكاملية التضاديَّة في آن, الخاضعة لتجاذبات وانتقادات كثيرة. فهو يشاهد من يتسمون بالتنويريين يعودون -زمنياً- أبعد مما يعود إليه السلفيون, فالسلفيون يعودون أربعة عشر قرناً إلى الوراء, في حين يعود التنويريون إلى أبعد من خمسة وعشرين قرناً إلى عصر الفلسفة اليونانية الكلاسيكية (سقراط, أفلاطون, أرسطو) وما قبله, وكان يؤمن أنْ لا فرق بين معظم التيارات في منطلقاتها, ويرى في النور والتنوير قطبين يعملان على توازن سفينة الحياة, فالقرآن يزخر بكل ما يعنى بالجوانب الروحية للإنسان, ويعمل على هدايته لسبيل الرشاد. أما النور ففيه حثٌّ على التفكير والتأمل, ودافعية إلى الممارسة البحث والتجريب وتفكيك الظواهر الطبيعية وتقويض بعض المسلمات. فهو بهذا يهتم بالجوانب المادية التي هي ضرورة حياتية؛ كونها عمارة للأرض. لكن المشكلة في أن (النوريين لا يقبلون التنوير ويرونه شراً محضاً ولا فائدة ترجى منه, وهذا الحكم بنوه على تقرير (التنويريين الشرقيين) للتنوير حينما جعلوه ضدَّ الدين ومبادئه وقيمه, وصيَّروا العقل فوق كل نصٍّ مقدَّس مُحْكَم في مقارنة جائرة, وإسقاط غير منطقي على حيثيات قيام التنوير الأوروبي.
يختم السهيمي كتابه بأن لابدَّ من العودة إلى تنوير أكثر توازنا, وهو الذي يجمع في وحدة واحدة بين نور العقل ونور الإيمان, ولذا فمطلوب من النوريين الإيمان بأن تفكيك الظواهر الطبيعية, وإعمال الفكر, وإزاحة العوائق الوهمية, وتقصي المعرفة المادية هي من العبادة. ومطلوب من التنويريين الإيمان بأن نصوص الوحي المقدس وهدي الأنبياء والرسل ليست عوائق في طريق النهضة التي يمكن بلوغها دون محاولة نقض أو إزاحة للثوابت المقدسة.
وبعد, هل يصل المثقف العربي,حامل مشعل النور والتنوير, ببنية المجتمع شبه المتهالك على المستوى الفكري والعلمي والثقافي والاجتماعي -ماخلا عيِّنات لم يُعْتَدُّ بها, ولو أُخِذ بها وبفكرها لكان الواقع عكس ما نراه- إلى برٍّ من الوجود؟ وهل ثمة داعمون لمركب الوصول إلى شاطئ من المعرفة التوَّاقة لبحّارتها؟ ما زال العمل سارياً, وما زال المثقفون يبحرون -بعضهم- علَّهم يصلون.
** **
د . غيثاء علي قادرة - أكاديمية سورية