في أعوام 71- 73 قبل الميلاد، اشتعلت أكبر ثورة للعبيد في تاريخ البشر. كان قد قادها العبد المحرر «سبورتا كوس» إبان الإمبراطورية الإغريقية أو اليونانية. وقد نشأ بعدها تيار اجتماعي ينادي بتحرير العبيد أطلق عليه «الليبرالية». وقد تبنت المسيحية والإسلام فيما بعد مبدأ تحرير العبيد، مما أدى إلى القضاء على امتلاك الإنسان للإنسان تدريجياً. وقد قبل مالكو العبيد هذا التغيير مجبرين، بيد أنهم استعبدوا المحررين من العبيد مرة أخرى!... كيف تم ذلك؟
العبد المحرر ليس أمامه سوى خدمة سيده السابق أو أي سيد آخر باعتباره حرّاً ولا يملك سوى قوته البدنية. وهو بسبب «حريته» له جزء من المحصول الموسمي، وليس قوته اليومي وحسب كما كان سابقاً. ولكن «الأسياد» السابقين و«القياصرة» فيما بعد كانوا يعطون الفلاح جزءا يسيرا من المحصول لا يكفيه هو وعائلته حتى الموسم القادم! فيضطر هذا الفلاح لـ«الاستدانة» من مالك الأرض ليسدد دينه بعد الموسم! وإذا كان الجزء اليسير الذي يحصل عليه الفلاح لا يكفيه بدون ديون، فكيف إذا كان ملزماً بتسديد ديونه؟.. وبهذه الطريقة لا يستطيع الفلاح العمل في أرض أخرى يستصلحها مثلاً إلا بعد تسديد ديونه -وهذا مستحيل! ومعنى ذلك أن يتحول «الفلاح الحر» إلى عبد مرّة أخرى بطريقة غير مباشرة، أي يتحوّل إلى «قن».
لا يهمني لغوياً إنْ تساوت كلمة عبد مع كلمة قن! ولكن التساؤل الملح الذي يدور برأسي: بعد أن أطاحت الرأسمالية بحكم القياصرة أو «الإقطاع»، هل انتهت العبودية «المحجبة» المسماة «قنانة»؟
نداء بابا الفاتيكان بإلغاء ديون الدول الفقيرة من أجل تخطي وباء كورونا وسلامة البشر، أيقض هذا التساؤل المدفون في داخلي من سنين! فنحن نعيش «قنانة دولية» مبطنة- إذا صح التعبير!... نحن لسنا سوى عبيد نكدح من أجل تسديد ديون «المستعمرين الكبار». ولكنني سأفترض جدلاً: أن وباء كورونا لم يحصل، ولم تحصل كوارث أخرى تهدد حياة البشر على الكوكب، هل ستستمر «القنانة الدولية» أو «الاستعباد الدولي المحجب» إلى الأبد؟ وإذا كان الجواب «لا»، من الذي يملك القدرة للقضاء على هذا الاستعباد الذي يعاقر التاريخ منذ آلاف السنين؟
لنا في التاريخ والجغرافيا عبرة جلية، فبعد الثورة البلشفية في روسيا «ألغى» قائدها لينين في ذلك الوقت كل الديون المستحقة على روسيا!... وقد يقول قائل: إن روسيا بعد الثورة كانت قوية إلى درجة أن «الدائنين» لا يستطيعون مطالبتها! وهذا القول صحيح- حتى لو أُريدَ به باطل! ولكن لبنان «البلد الصغير» الذي يعاني حالياً من أزمته الاقتصادية العنيفة، مضافاً إليها أزمة فيروس «الوباء المنتشر» وفيروس الدسائس والمؤامرات من الخارج والداخل، اتخذ قراراً شجاعاً بإيقاف تسديد الديون وإعادة بناء «وطن حر ومستقل»! ولم يتعرض له أي من «الضواري» الدائنين! بل إن نداء بابا الفاتيكان جاء بعد قرار لبنان! فهل هذه صدفة؟
الحقيقة التي يبتعد عن ذكرها الإعلام الأصفر في العالم كله: هي أن الوقت قد حان لإنهاء استعباد البشر بأي أسلوب كان! فالتطور البشري «حتمي» ولا يمكن إيقافه- حتى لو لم تكن هناك كوارث مثل كورونا! و»الحتمية التاريخية» التي روج لها اليسار الستاليني الخائب، تعني أن تضع رأسك على الوسادة وتترك «التاريخ» يقوم بعامل التغيير الوحيد الذي عرفته البشرية، ألا وهو الثورة!
التاريخ مجرد سجل للأحداث، وعامل التغيير هو أنت يا من يقرأ ذلك «السجل» بروحك وليس بعيونك، للاستفادة منه واستنباط عوامل التغيير! و«الحتمية» لم تكن أبدا للتاريخ، إنما للتطور! ونحن في «الربع الساعة الأخير» للعبودية المقنعة، فأين تكون أنت؟
** **
- د. عادل العلي