وصل الفتى التاجيّ فوق عمق القارة السمراء ليلاً، وعاين الحالة العامة، فلم يجد ما يلفت اهتمامه، حيث لا أثر لملَكياتٍ دارسة ولا تشكيلاتٍ تستثير الثأر والمداهمة، وفجأةً شعر بحرارة مؤذية تنبعث من طبقات الجو السفلى. وعندما كاد يسقط فوق غابة كثة لا تقطنها سوى الوحوش، انتهز أولى خيوط النور مع تباشير الصباح الباكر وانتزع نفسه من حالةٍ لا تستثير شهيّته الثأرية.
في أولى ساعات الضحى كان يغتسل مرحاً بمياه النيل ويعوم منتشياً على صفحته، عن يساره تنتصب أهرامات الفراعنة العظام، وعن يمينه تقف قلعة محمد على باشا مؤسس آخر السلالات الملكية المصرية. وعندما ملأت خياشيمه روائح حارات القاهرة الشعبية، قفز دفعةً واحدة وهبط في سوق الخضار المركزي، حيث التدافع والزحام واختلاط الأنفاس والأجساد. وما كاد يغرس أهدابه التاجية في الصدور العارية، حتى شعر بموجاتٍ كثيفةٍ من أعواد الملوخية والبصل تدق جسده النحيل دقاً مبرّحاً، وحتى استهدفته حبات الليمون والثوم تخدش وجهه وتشجّ رأسه.
ولقد انتهز أول هبّةٍ سانحة من تيارات رياح الخماسين فاعتلاها على عجل باتجاه الشمال، محلقاً بانتشاء فوق الأبيض المتوسط.
عندما بدأ الفتى ذو التاج يستروح نكهات الباستا والبيتزا، أيقن أنه قد وصل إلى غايته، وكان هبوطه في حواري روما القديمة، حيث أطياف القياصرة تجوب الساحات وتُمسّح على الأعمدة الرخامية، وتعزف على أوتار العتبات الأسبانية ألحان المجد التليد. وما أن وصل إلى مسرح الكولوسيوم رمز العظمة الرومانية وعاين مدرجاته المتداعية، حتى كشّر عن أهدابه التاجية وصار يعيث في المدينة طولاً وعرضاً، في المطاعم والمشارب والأسواق وأماكن اللهو. وإذ رأى السياح يهربون والأحياء تُغلق، وقد بلغت القلوب الحناجر، طارت به حمأة الثأر إلى ميلانو «لومبارديا»، درة الشمال الإيطالي، بعد أن ألقى تحية التبجيل على نابولي مسقط رأس «إيمانويل الثالث» آخر ملوك إيطاليا المتأخرين، وفي لومبارديا صنع أكبر كارثة حلّت بإقليم أوروبي.
يا لهذا الفتى المتوّج، ويا لشغفه الكاسح، ما باله يتسكع بين هذه الدرر السياحية والتاريخية، فلا يتجاوز إحداها حتى يتم إغلاقها، وحتى يتطاير السياح من أجوائها. وهل تحيا «فينيسيا» دون هؤلاء، وهل تتألق «فلورانسا» دون عشاق الفن، وهل كانت إيطاليا أكثر عتوّاً في القضاء على الملَكية؟!، تمتم في سرّه قائلاً: ربما لم تكن أعتاها لكنها الأكثر فشلاً في التعويض عنها.
وبينما كان يتجول في أحد الأسواق لمح صورةً للمشؤوم «موسوليني»، فتذكر على الفور صديقه الذي علّمه السحر «هتلر»، وإن هي إلا هنيهات حتى كان يحط في بلاد الراين، ويستأنف هجومه المعهود.
أدهشت الفتى المتوّج صلابة الألمان وتماسكهم، كما أدرك تآلفهم الوفي مع ذكريات الملكيات الجرمانية الغاربة، واجتذبته تلك الرصانة المتواضعة في شخصية المستشارة، فقرر الانسحاب بعدما نفث سموماً توازي غطرسة «الفوهرر» ونزقه العبثي.
كانت المحطة التالية هي الأشهى والأشقى، وعلى طول الطريق كانت تتخايل له صور «لويس السادس عشر» آخر الملوك الفرنسيس، وكانت دموع الجميلة «ماري انطوانيت» تستحثه وتشحذ همته.لم يكن هناك أشهى من جادّة الشانزلزيه وما فيها من احتشاد وجاذبية، ولم يكن هنالك ما هو أدعى لإثارة الهلع من هزّ هذه المدينة التي تجتذب عشرات الملايين من أطراف المعمورة، كيف لا وأصداء الثورة الفرنسية لا تزال ترددها جنباتها.
كم كانت الدهشة بالغة في نفس هذا الكائن الفيروسي المتوّج، من هشاشة هذه الكيانات المتعجرفة، وكم كان عجبه كبيراً من ادعاءات التقدم والتفوّق، بينما وجد مناعةً أقوى، وسياسة أحصف لدى كيانات أقل نمواً وتقدماً.
لم تعد هذه «الأوروبا» المنتفخة أكثر من ساحة مفتوحة لتزلّج هذا الصبيّ المفتون بالثأر، فتارةً يتدحرج على الأراضي الواطئة شمالاً، وحيناً يميل على الهضبة الإيبيرية غرباً، حتى خلق مزيجاً غريباً من الصخب السياسي العارم، والسكون المدني والاجتماعي المفرط، والتهتك الصحي المتفاقم. وفي أحد الأماسي المقمرة، وجد نفسه يتزحلق عبر بحر المانش الضيّق، ويحشر تاجه الأنيق بين السهاري وروّاد المراتع الليلية في قلب مدينة الضباب، لكي يصحو الناس صباحاً على نوبة فزعٍ مدويّة. وكان ينوي المغادرة سريعاً، فلا ثأر ينتويه لهذه المملكة العريقة، غير أنه فوجئ بصفاقة الوزير الأول، وإعلانه التحدي بادعاء مناعة القطيع، فأنشب فيه واحداً من أشرس أهدابه التاجية، وتركه رهن العناية الفائقة.
وقبل أن يزمع الرحيل، تغافل العاهلة الوقور، أثناء إغفاءة الظهيرة، ومسَح سريعاً على جبين الوريث المستقبلي للعرش، ثأراً معتّقاً على ما عانته تلك الأميرة المغدورة.
** **
- عبدالرحمن الصالح