عبدالمجيد بن محمد العُمري
كان الشعر -ولا يزال- نبض الحياة في جميع ظروفها وأحوالها المتقلبة. وعلى مدى القرون الماضية إلى يومنا هذا كان الشعر مواكباً لمراحل الحياة. والشعر لم يكن في يوم من الأيام منطوياً، ولنقل الشعراء على أنفسهم؛ فالشاعر المبدع هو صورة للمجتمع، يصور ما يعاني من آلام، وما ينشد من آمال. والظروف تولد المشاعر إن لم تفجرها؛ فتظهر الأحاسيس بصور شعرية، تارة بالنشوة والأفراح أو بالأحزان. فالشاعر يعبّر عن مشاعره وعواطفه فينفثها شعراً مع الآهات والعبرات أو المسرات. ولربما كانت بعيدة عن ذلك حينما يجنح للخيال، أو أن يجند شعره لفكره وما يؤمن به ويعتقده.
وما يهمنا هنا هو علاقة أهل الأدب عموماً، والشعراء خصوصاً، مع الحوادث والنكبات والأزمات، وهي ليست علاقة طارئة، بل هي علاقة متجذرة في التاريخ والحياة؛ فالشعر ظل حاضراً في قلب كل الأحداث الكبرى كيفما كانت طبيعتها. ولطالما قرأنا أشعاراً تصف مواقف عصيبة، وتخلد أحداثاً جسيمة، مَرّ بها الشاعر، أو مَرّ بها المجتمع الذي يعيشه. وهذا أمر طبيعي في مسيرة الشعر والشعراء في مواكبة الأزمات أياً كان نوعها؛ فهي - إضافة إلى أنها سِجل وتوثيق تاريخي - تعتبر من الأدب الإنساني الذي يؤكد الانتماء الأصيل للشاعر بما يحيط به، ويثبت قيمة الهوية المميزة للمجتمع الذي يعيش فيه.
والتعبير عن المشاعر أيضاً هدف من أهداف الشعر بأغراضه ومناحيه كافة.
وأزمة كورونا ألهبت عواطف الشعراء عموماً، نساءً ورجالاً، شيباً وشباناً، في عالمنا العربي، وربما شعراء العالم أجمع بمختلف اللغات، ولكني سأكتفي بالجزء الأول من عرض نماذج للشعر النسائي في المملكة العربية السعودية، ومشاعر النساء الفياضة حيال هذه الأزمة، خاصة مع ظروف الحجر الصحي وفراق الأحبة.
القصيدة الأولى كانت للشاعرة فوزية بنت عبدالعزيز القاضي، وخاطبت فيها كورونا، وجعلتها محاكمة له، ومطالبة إياه بالرحيل، فقالت:
ضيف ثقيل قد أتى متنكرا
وغزا البسيطة كلها مستعمرا
كره الجميع قدومه واستنكروا
قد حلّ لا أهلا أقام معسكرا
من أين جئت لأرضنا بشراسة
كل يحاول صدكم فتعسّرا
قل لي بربك كيف جئت لأرضنا
ولِم الدواء عن الوصول تأخرا
ولِم أتيت إلى العباد تروعهم
أشغلت كل الخلق روّعت الورى
لم ترحم الطفل الصغير أصبته
والدمع من عين الرؤوم تنثّرا
أولم تفكر في براءة وجهه
حملوه قسرا قد بكى وتعبّرا
أنهكت شيخا لم توقر شيبه
وذو الفتوة من أذاك تضجرا
قد عثت في الأرض الفساد قتلتهم
الكل من هذا البلاء تضرّرا
ونشرت رعباً لم نشاهد مثله
وسريت كالأسد الهصور لتزأرا
حتى المساجد أوصدت أبوابها
قد طالها إجرامكم ماذا جرى
وحرمت أفواج الحجيج رددتهم
من يلبس الإحرام جاء مكبرا
متنقلا في الكون دون مخافة
وكسرت شوكة من عليك تجبّرا
مرضى هنا جثث هناك تركتهم
والكون مذهول بدا متحيرا
من مات قد حضر القليل لدفنه
من خاف من عدوى أراه تطيّرا
ماذا تريد أما كفاكم غلظة
كورونا يسري في الجموع وسيطرا
أغلقت سمعك عن إجابة سؤلنا
ومضيت تفتك في الأنام وتثأرا
هيا أجب ماذا دهاك فصمتكم
قد حيّر الكون الفسيح تسمّرا
وبنيت وكراً في أوهانا خلسةً
إيران ترسلكم سفيراً منذرا
الصين تصنع داءكم ودواءكم
قد أخرت طرح العقار ليُشترى
حارت عقول جنّدت قواتها
والبحث فيك لدى الجميع تصدّرا
ماذا دهاك وقد أخفت جحافلاً
وأقمت في كل البقاع معسكرا
بذلت حكومتنا جهودا أدهشت
والمال تبذل في سخاءٍ أبهرا
في موطني نال المواطن حقه
حاز المقيم رعاية فتشكّرا
في حين قد بخل الطغاة بمالهم
ظنوا علاج الشعب مالاً مهدرا
زعموا رعايتهم حقوق شعوبهم
والكشف عن زيف الحقائق أسفرا
شكرا كورونا قد كشفت حقائقاً
وفضحت من بالأمس ساد تجبرا
شكرا كورونا قد عدلت فجئتهم
ساويت ما بين الفقير وذي الثرا
ساويت ما بين الشريد بأرضهم
وذي النفوذ مزاجه متعكرا
الدولة العظمى بلادي سخّرت
المال والجهد العظيم لتظفرا
كل ينادي «البقاء ببيتكم»
إعلامنا من بطشكم قد حذّرا
ادعوا لمملكة يقود زمامها
سلمان وجه السعد جاء مبشرا
يا رب زدها من النعيم بفضلكم
عشتِ بخيرٍ يا بلادي أدهُرا
من ينكر المعروف حقاً جاحدٌ
الخير من هذي البلاد تفجّرا
أنت النذير أتيتنا من ربنا
حتى نتوب وبالقيامة ذكّرا
ومن السبات استيقظي يا أمتي
عودي إلى رب العباد تفكرا
لله نجأر أن يغيث قلوبنا
ويعز مملكة العطاء لنفخرا
شهر كريم لا يكدر صفوه
الشر عن كل البسيطة أدبرا
إن كنت قد أرهبت جمعا في الورى
ما زال رب الكون منكم أكبرا
أقسم بربك لا تعود مجدداً
واحذر تقيم على العباد تنمرا
صلوا على الهادي البشير لأنه
يدعو إلى خير الأنام وبشّرا
وبعد هذه المحاكمة الطويلة عادت الشاعرة مرة أخرى معبرة عن مشاعرها الإنسانية عندما تعذرت رؤيتها أبناءها وأحفادها بسبب الحظر واشتياقها لهم، وهي تطالب كورونا بالرحيل:
عشرين يومًا لم أرَ أحبابي
والدمع من شوقي على أهدابي
لا نلتقي إلا بهاتف بعضنا
عشنا مع الأحباب كالأغراب
السبت يجمع شملنا وطعامنا
قدمت رغبتهم مع الإعجاب
وصغارهم خطفوا فؤادي عنوة
الدمع يعلن حيرتي وعذابي
أحلى من العسل المصفى طفلهم
قبلت صورتهم فسال لعابي
من ذا يشاطرني مساء قهوتي
من ذا سيأكل مطعمي وشرابي
اليوم كوب واحد مع ترمس
يكفي لشخصٍ منهكٍ مرتاب
استوحش الكوب الوحيد لأنه
اعتاد مع جمعٍ من الأكواب
وإذا رأيت أحبتي في هاتفي
حمدت ربي جيئتي وذهابي
لو واعدوني بالمجيء رأيتني
في الباب واقفة على أعقابي
بخّرت بيتي في انتظار قدومكم
طال انتظاري وما فتحتم بابي
وأظل أرقب في انتظار قدومكم
أومت لي ساعة معصمي بسراب
لو يرفع الحظر المقيت لبرهة
في اللحظة الغراء يا أحبابي
أنا ما انتظرت مجيء سائق بيتنا
ونهضت من فوري ارتديت حجابي
مشيا على الأقدام من ولهي لذا
عجلى أتيت بطرحتي ونقابي
ونسيت آلامي خشونة ركبتي
هرولت مسرعة وعاد شبابي
الأم ولهى هل ألام بربكم
من فرط شوقي قد يطير صوابي
إن كنت قد فرطت في استقبالكم
فعلى الأصابع قد عضضت بنابي
كورونا ماذا قد فعلت بجمعنا
فرقتنا فارحل بدون إياب
ارحل كورونا لا نريدك بيننا
تبدو الشوارع بعدكم كخراب
صبرا بقينا في البيوت لأننا
نرجو من المولى جزيل ثواب
رباه فاجمعنا بخير عاجلا
من فرحتي أُنسيت حينها ما بي
صلوا على خير الأنام محمد
نرجوك يا رباه عتق رقاب
وعلى هذا المنوال والمشاعر الإنسانية الفياضة جاءت قصيدة الشاعرة فايزة بنت محمد العُمري؛ فكانت قصيدتها شوقاً لأبنائها وأحفادها، فقالت:
بحمدِ اللهِ سوف تقر عيني
بأحبابي الكبار مع الصغارِ
لأروى ثم (رهوف) وجودٍ
وتركي والمهند مع مشاري
إلى يزنٍ ونورة مع يزيدٍ
وآلاءٍ سأسعدُ بالمزارِ
حرمنا الحجر منهم بعض وقتٍ
بهذا الحجر كنا في اضطرارِ
وفي أيامِ حجرٍ كنت أدعو
أؤملُ أن نُبشرَ بالقرارِ
وأسألُ ربنا المولى تعالى
جلاء الهم عن كل الديارِ
ونسمع من بيوت الله صوتاً
بأطراف المساء مع النهارِ
أما الشاعرة مها بنت ناصر المانع فصوَّرت شوقها إلى والدتها بعد أن حال بينهما الحجر الصحي؛ فقالت في قصيدتها (إلى أمي):
مع قرار حظر التجوال الذي صدر مؤخراً؛ وذلك بهدف كبح انتشار وباء كورونا الذي أصاب العالم جميعاً بالخوف، انقطعت الزيارات بين الأهل والأحبة. وفي مقدمة مَن افتقدت زيارتها والدتي العزيزة - حفظها الله من كل سوء ومكروه -؛ فقلت:
أيا أماهُ والدنيا فداكِ
يعـزُ عليّ أنـي لا أراكِ
وبي شوقٌ إلى لقياك أمي
فقلبي لا يسليه سواكِ
يمرُ اليوم عندي مثل شهرٍ
من الشوقِ العظيمِ إلى لقاكِ
ولولا الحظر لم أهجرك يوماً
فكيف يطيب حالي مع جفاكِ
وشوقي كل يوم في ازدياد
لننهل في لقاك ومن رواكِ
أُهاتفكِ ولكن لست أدري
بماذا قلتُ من فرط ارتباكي؟
عليك سلامُ ربي والتحايا
معطرةٌ بريحٍ من شـذاكِ
ويحفظك الإله لنا جميعاً
ونسعدُ يا أُميمة في رضاكِ
وخاتمة المطاف مع الشعر النبطي للدكتورة لمياء بنت حمد العقيل، التي حبستها احترازات (كورونا) بالرياض، وتوجّدت على والدها الموجود بعنيزة.. تقول فيها:
بلّغ سلامي يا شعر بالمراسيل
للي حبسنا عذرنا ما نجي له
أبوي جعله ما يذوق الغرابيل
وما تجزي عيونه عن النوم ليله
قل له تراي اشتقت له حيل بالحيل
شوق الصحاري للسحاب الهميلة
من دون شوفك صادفتني عراقيل
ودي أجيك وما لقيت الوسيلة
حظر التجوّل حال بين الرجاجيل
شهرٍ مضت فيه الليالي ثقيلة
قلبي تخرّق والمحاجر هماليل
والكف تصفق ما لها اليوم حيلة
اشتقت للجلسة وصفر المعاميل
وخلٍّ وفيٍّ ما يكدّر خليله
اشتقت للدلّة وصوت الفناجيل
والتمرة اللي في يمينك تشيله
تمدّها لي من خيار المحاصيل
والكيف زايد به من الجود هيلة
حوله نسولف في دقاق التفاصيل
ناخذ ونعطي والنسايم عليلة
هرجٍ سمينٍ ما يعرف المهازيل
الراي صامل والقصايد جزيلة
ما نَدسِم الشارب من القال والقيل
ندسم شواربنا بفعل الجميلة
يا بوي خذني ذخرةٍ للمقابيل
ترى حياتي فدوةٍ لك قليلة
وكاد ما هو يايبه كذبة إبريل
واللي شهد غير الذي ينحكي له
الطيب ما هو حكر في زيد وسهيل
بنت الرجال تمدّه وترتكي له
بنتٍ تجافى عن هوى الزل والميل
بنت الأصايل ما تجي غير أصيله
باكر يبه نلقى الرخا والتساهيل
وانصاك ما دوّر لدربك دليله
هذه نماذج من إبداعات الشاعرات السعوديات في توثيق المعاناة الإنسانية مع أزمة وباء كورونا، وهي غيض من فيض. ومن المؤكد أنه ستصدر دواوين شعرية وروايات وقصص محلية وعربية عالمية عن هذه الأزمة؛ فقد سبق أن كتب الروائي الفرنسي ألبير كامو، الفائز بجائزة نوبل للأدب عام 1956م، روايته الطاعون التي نال بها الجائزة بعد أن دوّن فيها صوراً من أحداث المرض بالجزائر. والمكتبات حافلة بمثل هذه الأعمال الأدبية، وإن غداً لناظره قريب. حفظ الله الجميع من كل سوء.