د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في ظل هذه الجائحة التي تجتاح أقطار الدنيا دون تقيُّد بحدود، أو جدار ممدود، كاسرة كل التصانيف الاجتماعية البشرية، ومتخطية كل الحواجز الاصطناعية، استقرت في جسم الإنسان لتجعله مطية تمتطيها لتعبر بها البحار، وتزور كل الأمصار، وتنتشر كالنار في الهشيم، أو بيت شعر قاله هجّاء خصيم، لم تعطف على صغير، ولم توقر كبيرًا، ولم تفرّق بين غني وفقير.. تحير العالم في معرفة كنهها، بعد أن فلّوا شفرتها الجينية، وعرفوا تركيبتها الحيوية، لكنهم ما زالوا عاجزين عن إيجاد مصل واقٍ، غير أنهم توصلوا إلى علاج أو كادوا، لكنها ستمرُّ مرور الكرام، كما مرّ غيرها عبر الدهور والأزمان، وستخلف وراءها أرضًا صالحة للزراعة، وللإنسان أن يزرعها بما يشاء، فإن أراد أن يجني ثمرًا يانعًا، ووردًا زاهيًا، زرعها بالخير والمحبة، وإن أراد أن يعيش سنين عجافًا زرعها بما يضر ولا ينفع.
عندما يزرع الإنسان دنياه بالتعصب الديني، أو بسبب لون بشرة، أو انتماء إلى منطقة، فسيعيش كما كان دون اكتراث بنوائب الزمان.
بسبب التطرف الديني رأينا فيما سبق مجاميع تمتطي صهوة الدين، وتسل سيوف الجاهلين لتقتل الأبرياء، وتعبث في الأرض فسادًا. رأيناها في بلاد مختلفة، وثقافات متباينة، قتلوا ودمروا، وما زالت أذيالهم باقية في وقتنا الحاضر، في الصومال، ونيجيريا، وسوريا، وأفغانستان، ودول أخرى، وغيرهم قابع ينتظر فرصة متاحة في بلاد عدة حتى يكشفوا عن وجوههم الكالحة، وأفعالهم الآثمة، ومراميهم الخبيثة.
«الإنسان أولاً» لا بد أن يكون شعارًا لوقت جائحة كورونا وما بعدها؛ فلا بد أن يُسخَّر المال والتقنية، والعلوم الصحية وأدواتها لخدمة الإنسان، وليس تدميره. وأتمنى ألا ينطبق على إنسان هذا الزمان قول الشاعر:
الناس في غفلة عما يراد بهم
كأنهم غنم في بيت جزار
«الإنسان أولاً» يكون بكونه عاملاً جادًّا أمينًا صادقًا، يحمل الحب والخير، وينشد النماء والتطور، ويغسل الحقد والحسد والغدر، ويتعاون على رفعة ذاته وغيره، متخليًا عن أنانيته التي ربما تكون قد علقت بسلوكه.
الإنسان في ظني ليس كما يقول المتنبي ظالمًا بطبيعته؛ إذ يقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
حتى وإن كان قوله فيه شيء من الصواب -على سبيل الافتراض- فجدير به أن يعالج هذا المرض العالق به، كما يعالج الأمراض الأخرى، التي ربما تصيب جسده؛ فالنفس أولى بالمعالجة من الجسد؛ لأنها التي تضع الذات، والترابط، وهي التي تدفع الإنسان ليكون أولاً، بالتخلص مما يصيبها من وساوس.
الإنسان أولاً روحًا وجسدًا، وكما يقول شوقي:
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتع وخم
ولهذا فإن البُعد عن النفس الأمّارة بالسوء، ومحاربتها من قِبل الإنسان، هي القاعدة التي يرتكز عليها مستقبل البشرية جمعاء، بعد هذه العبرة التي ستمرُّ عاجلاً بإذن الله.
أتمنى أن يعرف الإنسان قدره، وتفضيله على سائر المخلوقات بمنحه العقل الذي يفكر به؛ فلعله يستخدمه فيما ينفعه، لا ما يؤذيه. وفي ظل هذه الجائحة التي عجز عن إيقافها العلماء حتى الآن نرى دولاً تقدِّم خدمات صحية رائعة، ستظل مسجلة في أذهان مَن قُدمت لهم، وأقاربهم، وذويهم، وأصدقائهم، ومعارفهم. وعلى رأس تلك الدول المملكة العربية السعودية التي قدمت خدمات هائلة لكل مقيم على أرضها، سواء كان مواطنًا أو غير مواطن، نظاميًّا، أو مخالفًا، سواء بالدواء أو الإيواء.
ندعو الله أن يزيل هذا البلاء عن جميع بلاد العالم، وأن يحفظ العالم أجمع من الجائحات والأوبئة والأمراض.