د. عبدالحق عزوزي
هناك سؤال يطرحه العديد من المتتبعين عن مستقبل الاقتصاد العالمي لما بعد فيروس كورونا، خاصة أن مرحلة اللايقين أصبحت هي السائدة في جميع مناحي الحياة؛ ومسألة اللايقين من أسوأ ما يمكن أن تعاني منه عجلة الاقتصاد العالمي. والمؤشرات الدولية كلها لا تبشر بخير: ففي الصين أظهرت بيانات رسمية أن الاقتصاد الصيني انكمش بنسبة 6.8 في المائة في الفترة من يناير- كانون الثاني حتى مارس- آذار مقارنة بالعام الماضي، ليسجل أول انكماش منذ عام 1992 على الأقل. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتأثر الاقتصاد العالمي الذي سيتقلص بثلاثة في المائة في 2020 في أكبر أزمة اقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.. وتسارع العديد من الدول الزمن لإنقاذ كبريات الشركات من المجهول؛ فقد أعلنت منذ أيام الحكومة الفرنسية على لسان وزير الاقتصاد برونو لومير أن شركة الطيران الفرنسية «إيرفرانس» ستحصل على قروض من المصارف ومن الدولة بقيمة سبعة مليارات يورو لمواجهة أزمة فيروس كورونا.
وأكد الوزير الفرنسي أن تأميم الشركة «ليس مطروحاً»، وإنما تسعى الدولة بهذه القروض إلى «إنقاذ الوظائف المباشرة وغير المباشرة» في هذه المؤسسة.
كما أشار الوزير الفرنسي إلى أنه يتم حالياً دراسة منح حوالي خمسة مليارات يورو من القروض المصرفية المضمونة من الدولة لمجموعة رينو الفرنسية لصناعة السيارات.
من جانب آخر، وافق حكام البنك المركزي الأوروبي على السماح للمصارف بالاقتراض منه بضمان «سندات عالية المخاطر» سواء أكانت صادرة عن حكومات أو شركات في منطقة اليورو، لمواجهة تداعيات جائحة فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي.
ويعني هذا القرار «الاستثنائي» بالنسبة إلى الأسواق في الدرجة الأولى السندات الحكومية الإيطالية المهدّدة بالهبوط إلى خانة السندات العالية المخاطر أو كما يطلق عليها بلغة السوق «سندات المضاربة».
إن الوضع هو أولاً وقبل كل شيء أزمة صحية، واضطرت الحكومات إلى اتخاذ خطوات لحماية حياة الناس. ولكن في المقابل سيفضي التراجع الحتمي في التجارة والإنتاج إلى حدوث عواقب مؤلمة على الأسر والشركات، فضلاً عن المعاناة الإنسانية التي يُسببها المرض في حد ذاته.
الأزمة الحالية أخطر من أزمة 2008 و من كل الأزمات السابقة لا من حيث التداعيات ولا من حيث الأسباب.. فمن الوارد جداً أن تستمر الأزمة لمدة طويلة، لأن الحكومات تشدد القيود على الأعمال التجارية لوقف انتشار الفيروس، وطالما أنه يشكل خطراً على حياة الناس، فلا يمكن أن تعود الأعمال التجارية والحياة كما كانت..
ولفهم أزمة 2008 يكفي مشاهدة فيلم The Wizgard of Lies من بطولة الممثل روبير دونيرو وهذا الفيلم يصور حدثاً فريداً يمكن أن نسميه بأكبر عملية نصب تاريخية في دولة ديمقراطية متقدمة تعج بالمراقبات المالية المتنوعة والقوانين الدقيقة، وأعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية. بطل عملية النصب هاته هو السيد برنارد مادوف الذي تم اعتقاله في 11 ديسمبر من عام 2008 عن طريق مكتب التحقيقات الفدرالي بناء على بلاغ من ابنيه خوفاً من أن يتابعا هما بنفسيهما إذا قاما بتغطية الحقيقة بعد اكتشافها. وتعتبر عملية النصب تلك التي تدعى بسلسلة بونزي، عملية تم فيها النصب على ما يزيد على 50 مليار دولار، وجرت على عقود من الزمن، ولا أعرف في التاريخ البشري أكبر عملية نصب مثل هاته، حيث تمت على يد شخص واحد، وكتم احتيالاته حتى عن زوجته ناهيك عن ولديه الذين كانا يشتغلان عنده. كيف كان يحتال برنارد مادوف على ضحاياه؟ المسألة بسيطة جداً. كان يأخذ من أموال المستثمرين الجدد ليعطي منها إلى المستثمرين القدامى، وبذلك كان يعطي للجميع انطباع النجاح الدائم والأكيد والسريع، والاستثنائي في عالم مالي يطبعه المجهول واللايقين والغموض.. قوانين الجشع والطمع والنفاق والاحتيال واللوبيات وغياب الشفافية هي التي ولدت الأزمة المالية لسنة 2008 وهي التي خلقت رجلاً مثل برنارد مادوف، وهي أيضاً التي تخلق تلكم السياسات العجيبة للدول القوية في النظام العالمي وتفرضها بذكاء على بعض الدول.. أما أزمة اليوم فهي أعقد من ذلك، لأنها ناشئة عن عامل عجيب هو عبارة عن فيروس ليس من جنس الإنسان، أغلق الحدود وأوقف كل اقتصادات العالم وفرض قاعدة «ابقوا في مساكنكم» كقاعدة وحيدة للبقاء في عالم جديد؛ ويقيني أن التعافي سيكون بطيئًا، وستتغير أنماط الاقتصاد في إطار عولمة جديدة مغايرة لسابقتها، لأنها في هاته المرة سيكون لها روح.