د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لو صحّ لهذا العصر أن يأخذ تسميةً جامعةً لكان عصرَ الجدل، فالكلّ يختلف مع الكل، ولا قيمة لتخصصٍ ولا متخصص، وفي جيلٍ قريب كان الاختلاف تأصيليًا حجاجيًا، وهو -اليوم- استعراضي، لجاجي، فللاختلاف نهجُه ومنهجه، ولكل بيئةٍ ضوابطها، وما وراء ذلك افتتان بالإيقاع وثرثرة في القاع.
** نفى «ماركس 1818-1883م» أن تكتسب الأفكارُ المهاجرة قوتها التي تهيأت لها في موقعها الأصلي، وأكد أنها ستفقد جانبًا من قيمتها، والظنّ أنه لا خلاف معه إلا فيما يتصل بالوحي السماوي الذي حمله أنبياء الله فساد وقاد ولم يعد ذا موطنٍ محددٍ أو لأناسٍ محددين، والأمر نفسه للمفكرين، فهم وسط أقوامهم أكثر تأثيرًا، واللغة بين متكلميها الأصليين أقوى، والمرء عند أهله أقدر، والحياة في الطبيعة أنقى.
** المعادلة هنا توازن الطبع وانحراف التطبع، ومن ينصف نفسه يدرك أنه ينتمي إلى الحقيقة قبل المجاز، ولا يستطيع من يُجمّل أشياءه أن يكون جميلًا، والكلمة وعاء لكن الإنسان وعي، والمؤمن بقِيمهِ يعيشها، والمسكون بقيم سواه يعايشها، والتكحل غير الكحل.
** «ميسون» - أكانت البحدلية الكلبية زوجة معاوية أم الجندلية الفزارية حيث اختلف المؤرخون- وجدت ذاتها في خيمتها لا في قصرها فتصالحت مع ماضيها وحنّت إليه، ولو لم تفعل لما احتُفي بنصها، فالهاربون من حياتهم هم القاعدة والمنتمون إليها هم الاستثناء، وفي زمنٍ كزمننا فاق المسكونون بخوارجهم الراضين بدواخلهم، ولو انتصفوا لأنصفوا، فما لا يد لك فيه لا فخر لك به، ومن يسكن قمم الألب ولا يعجبه التزلج كمن يجوب الصحراء وهو لم ير الجمل، وكلاهما سائح أو عابر.
** في المسار الثقافي ثمة من يزايد على شخوصٍ أو نصوصٍ ليست له ولا منه فيتعصب ويغضب وكأنه الموكّل برفعها أو وضعها، ومن لم يعش زمن قومٍ يُجمع من قرأهم على أن يحفظ قدرهم فليس مطالبًا بأن يسرف في الدفاع عنهم أو الاندفاع ضدهم فليسوا نحن ولا نحن هم، ولهم زمنهم ولنا زمننا، ولا معنى كي يظلّوا موقع فرقة بيننا.
** الغلوّ في التقديس كالإيغال في التدنيس، ونحن أمام مشروع صناعة فكرٍ حرٍ مستقلٍ يأخذ من الجميع وعن الجميع فيقرر من يشاء ما يشاء لا وفقا لما قاله ذو مقامٍ أو مقال، ومن ينتصرون لنظريةٍ ويناوئون سواها ، ومن يقفون الموقف المصادم لهم غير قادرين على أن يغيروا وجهة التأريخ أو اتجاه الحقيقة، وقد وظفت قنوات فضائية ووسائط رقمية بثها لشحن النفوس وتأجيج المشاعر بصورة وئامٍ أو خصام حدّيين،لا يفترق في ذلك المؤدلجون عن المبرمجين، فأثاروا ولم يثْروا ولم نصل معهم إلى رأيٍ يخلق الائتلاف.
** خطوط عريضة لأسباب الخلاف وظواهره تحتاج إلى من يتأملها كي يتحاور من يحقّ مع من يستحقّ، أما « الحراج» فلتجارة الخردوات.
** الفكر يرقَى ويرقِي.