د. علي بن فايز الجحني
لقد ارتبطت العلاقات الدولية اتجاهًا ومضمونًا بمفاهيم ومعطيات مراحل تاريخية لا يمكن عزلها عن بعضها، إلا أنها لم تتبلور كعلم في مجال المعرفة إلا في الربع الأول من القرن العشرين، وكان معظم روادها من الباحثين الغربيين الذين رأوا أن هذا العلم ليس إلا ثمرة من ثمار حضارتهم، وأن المجتمعات الأخرى لم يكن لها إسهامات فعالة في نشأة وتطوير مناهجه ونظرياته، وأن معاهدة (وستفاليا) عام 1648م كانت بداية انطلاقته، على اعتبار أن تلك المعاهدة قد أسهمت في حل الصراعات والمنازعات التي كانت قائمة في البيت الأوروبي في الفترة من 1618 إلى 1648م.
- صحيح أن هذه المعاهدة قد أسست مفاهيم، وأكدت أهمية الالتزام بتنفيذ المعاهدات، واحترام الدول، بيد أن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من حيث مسار تطور علم العلاقات الدولية، كانت جوهرية، إذ بدأت مراحل تطورها التاريخي من دراسة التاريخ الدبلوماسي، ثم دراسة الأحداث الجارية، ودراسة القانون الدولي والمنظمات الدولية، ودراسة السياسة الدولية، وكانت المدرسة السلوكية والواقعية قفزة في أهميتها، وما كتابات هانس مورقنثو، وريمون أرون، وجورج كينان، وجيمس روزنو وهنري كيسنجر، وغيرهم إلا روافد أثرت علم العلاقات الدولية، في منهجيته نحو التعمق في تفاعلات الوحدات السياسية وعلاقاتها بعضها مع بعض في النظام العالمي.
وعلى الرغم من كل هذا التطوير في علم العلاقات العامة، إلا أنها تركزت دراساتها حول توازن القوة، والمصلحة الوطنية، والأحلاف؛ حتى إن كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابق قال: «إن هناك زواجًا بين القوة المسلحة والدبلوماسية، وليس بينهما طلاق» وهناك جوانب أهملت في تلك الأثناء مثل: الأمن الإنساني، ومهددات الأمن الداخلي للدول، والفقر العالميّ، ومهددات البيئة، وموضوعات النزاعات الإقليمية، والتوترات الجيو سياسية، وأزمة المُناخ، وانعدام الثقة عالميًا، وتحديات التأثيرات السالبة للتقدم، وضعف دور الهيئات والمنظمات الدولية؛ فضلًا عن الطابع المتغيّر للجهات المشاركة في صنع القرار الدولي وجشع بعض الدول والسطو والابتزاز، والاحتلال والتوسع، وبروز القوميات المتطرفة.
وعلى الرغم من كل تلك الإسهامات العلمية والمآخذ، فإنه يؤخذ على العلماء الغربيين ومن سار في ركابهم، تجاهلهم أن الإسلام لم يكن سبّاقا، في حين أن له الأسبقية منذ ما يزيد على 14 قرنًا؛ إذ تصدى مع بزوغ فجره، لأحوال سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة التعقيد والتردي، ونجح في التعامل معها، فعقد الرسول صلى الله عليه وسلم المعاهدات، وراسل الملوك، وبعث الوفود، وتحالف مع القبائل، وأقام العلاقات الخارجية؛ ودعا إلى السلام، والتسامح، والأمن، والعدل، واحترام كرامة الإنسان، وتنظيم شؤون الناس، والحد من المنازعات، وكان ذلك وفق تصور إسلاميّ مستمدٌّ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات، وقال تعالى {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة، وقال {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة، وقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (70) سورة الإسراء، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (256) سورة البقرة. كما أن الإسلام له هديه وتوجيهاته في تقرير مواجهة الجوائح والأوبئة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها». وقال: «لا يورد ممرض على مصح». وقد شددت هيئة كبار العلماء في المملكة على الأهمية القصوى في التقيد بالتعليمات والتوجيهات التي تصدرها الجهات المختصة لمواجهة جائحة كورونا، والحد من آثارها، وبينوا أن الإجراءات الاحترازية لمواجهة هذا الوباء قضية أمن قومي، تنطلق من مقاصد شرعية؛ وأن الالتزام بتعليمات وزارة الصحة واجب شرعي يثاب فاعله، ويعاقب تاركه.
والحق أنه عانت دول مجموعة السبع في إدارة هذه الجائحة، وتعرضت إلى أصعب امتحان في تاريخها، وهي: الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، ألمانيا، إيطاليا، المملكة المتحدة، فرنسا؛ حيث يبلغ مجموع اقتصادهم ما نسبته 65 % من اقتصاد العالم، واستنفرت هذه الحكومات ومراكز الدراسات والأبحاث، والمراكز الطبية، والشركات الكبرى، ومعامل الأبحاث الطبية، وكل الجهات ذات الصلة جهودها للوصول إلى علاج سريع لهذا الوباء، وفي نفس الوقت توفير الإمكانات المادية والبشرية، خاصة المستلزمات والمعدات الطبية، إلا أنه ظهر العجز والإخفاق بشكل لم يكن في الحسبان.
إن التطور المذهل في ميادين الصناعات العسكرية والتسلح، والاتصالات، والمواصلات، وطفرة التقنية الحديثة وغيرها لم يكن تطورًا اعتياديًا بالحسابات المتعارَف عليها، وعلى الرغم من كل ذلك؛ فإنه لم يحمِ تلك الدول من وقوعها عرضة لمواقف صعبة أمام شعوبهم في امتحان فيروس كورونا، إذ لم يكن تقدمهم الصناعي والتقني المذهل يجعلهم في مأمن من زحف فيروس كورونا المستجد الذي يسري فيهم سريان النار في الهشيم، فكانت أمام أعينهم تتهاوى مستشفياتهم وإمكاناتهم، وظهر للعيان هشاشة أمنهم الصحي، ومدى تراجع شعارات مناصرة حقوق الإنسان التي كانوا يتغنون بها. أليس هذا دليلًا قاطعًا على أن العالم سيكون بعد كورونا غير ما قبلها، وأن العلاقات الدولية والنظام الدولي على جميع المستويات سيتغير تغيرًا جذريًا، كما حصل؟
لقد أصاب العلاقات الدولية والنظام العالمي ما يشبه «تسونامي» وتمثل ذلك في أحداث 11 سبتمبر 2001م، حيث التحولات الجذرية من حيث إن العالم وقف ضد الإرهاب ورموزه، عدا نظام ملالي إيران الذين ما زالوا في ظلالهم وغطرستهم، ولا نستبعد ارتكابهم أو بواسطة وكلائهم وميليشياتهم مغامرات طائشة هروبًا من واقعهم المتهاوي في جميع المجالات، ومن ذلك على سبيل المثال: اقتراف جريمة نشر الأمراض الوبائية، وهذه ليست توقعات، وإنما نادى بها أحد ملاليهم / علي رضا بناهيان - المقرب من المرشد الأعلى خامنئي - في تصريح له مؤخرًا «إن ظهور فيروس كورونا هو مقدمة لظهور الإمام المهدي..» ودعا الإيرانيين إلى نشر الفيروس بين الناس، لأن ذلك سيعجل بظهور المهدي.
قلت في مقال سابق: «إنه لا يوجد بلد عربي أو إسلامي تقريبًا، أو أي بلد مؤثر في العالم إلا وقد اكتوى بنار الأعمال الإرهابية الإيرانية بطريقة أو بأخرى، والمؤشرات توحي باستمرار تصدير أيديولوجيتهم تحت ذرائع وأوهام طائفية وشعارات مضللة، وأمام هذا السجل المليء بالمؤامرات والأحقاد؛ فهل يمكن لأي عاقل بعد ذلك كله أن يثق في نوايا نظام ولاية الفقيه في إيران؟
يقول منظّر نظام ولاية الفقيه الإيراني محمد جواد لاريجاني والقريب -أيضًا- من المرشد وشقيق رئيس مجلس الشورى: «إن دول العالم العربي ستصبح في نهاية المطاف بمثابة مقاطعات ستدين للولي الفقيه في طهران بالسمع والطاعة والانقياد، وأن الجمهورية الإيرانية هي دولة المقر بالنسبة للعالم الإسلامي» ويقول: «.. إن مسؤولية إنجاز هذه المهمة تقع على عاتق إيران- التي تعتبر نفسها الركيزة الأساسية للحكومة الإسلامية العالمية، وهي المخولة بالمهمة الإلهية لإنقاذ العالم السني وإخراجه من الظلمات إلى النور». وقال قائد قوات التعبئة الإيرانية: «إن قوات التعبئة «الباسيج» التابعة للحرس الثوري، لم تعد محدودة بجغرافيا إيران، بل باتت تجربة واضحة في دول عربية في سوريا والعراق وسواحل المتوسط (لبنان) واليمن».
إن من يراهن على أن دولة الملالي المارقة ستتخلى عن أنشطتها العدائية، هو كمن يعتقد بأن الشمس لن تشرق يومًا، فتلك الدولة تأسست على الشرّ والعدوان، والأحقاد التاريخية والمذهبية والطائفية، ولا يمكن أن تتغير.. وما دعاني للإشارة إلى ذلك هو عدة أمور أولها: أن هذه السلطة في إيران تمثل الدولة المارقة في العلاقات الدولية والنظم السياسية التي لم ولن يغير سلوكها حتى بعد ما حلّ بها من جائحة كورونا، وثانيها: أن ما حدث في موسم حج 1410هـ وما قامت به بالتعاون مع عملائها في المنطقة، وذلك بعد أن تحلل الكثير من الحجاج من إحرامهم، لا يمكن أن ينسى، ثالثها: أن نظام ولاية الفقيه لا يتورع في انتهاك سيادة الدول، وحقوق الإنسان، والمواثيق والأعراف الدولية، والشواهد كثيرة.
والحق أن العلاقات بين الدول محكومة بقوانين، وتشريعات ونصوص تراعي المقاصد والمصالح، وهذا يجعل من المرجح أن يكون لمجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ومنظمتها والبنك الدولي والمنظمات الإقليمية دور أكبر من ذي قبل بعد جائحة كورونا، لتخفيف آثارها على مختلف المستويات، خاصة وأن الواقع يشهد على معاناة الكثير من الدول بما فيها الدول الكبرى.
ولقد نجحت المملكة في حربها ضد هذه النازلة، حيث قدمت للعالم نموذجًا متميزًا في إستراتيجية التعامل مع الأزمة بكفاءة وفاعلية، وكان لتوجيهات القيادة الحاسمة يحفظها الله، ومتابعة التطورات والتركيز على الاستعدادات المبكرة باتخاذ الخطوات والقرارات الاستباقية الاحترازية المسددة الأثر الفعال الأكثر نجاعة وحزمًا، وكان التعاون بين الجهات والمؤسسات وفرق العمل ذات العلاقة في أعلى مستوياته: وهذه الإدارة الرشيدة ستكون بلا شك محل اهتمام وإعجاب العالم، بل ستصبح التجربة السعودية مجالًا للاسترشاد بها والاستفادة من معطياتها.
إن الأوبئة والأحداث الجسيمة التي شهدها العالم تعد إيذانًا بتغيرات جذرية في العلاقات الدولية والنظام العالمي، ومن هذه الأحداث: الحربان العالميتان وما أعقبهما، وانهيار العثمانيين وتلاشي الصراعات الأوروبية، وتقلص دور الكنيسة، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي بعد فترة طويلة من الحرب الباردة، وتصدر الولايات المتحدة النظام الدولي، وكانت أيضًا أحداث 11سبتمبر مرحلة لها حيثياتها وتداعياتها. والآن فإن العالم على أعتاب مرحلة ما بعد كورونا في العلاقات الدولية؛ حيث ستحتفظ الولايات المتحدة بدور قيادي، لأنها الأقوى في التقنية والفضاء والجيش والصناعة والبحرية والمال والأعمال وغيرها من المجالات، على الرغم مما تكبدته من خسائر بشرية وتريليونات من الدولارات، وما تعرضت له من صعوبات في النظام الصحي من جراء آثار جائحة كورونا.
وستصعد قوة الصين إلى حد يتساوى مع إمكاناتها، وإن كانت الأنظمة الماركسية لن تكون محل جاذبية للعالم، وسيتذبذب الاتحاد الأوروبي في مجمله غير أن ألمانيا ستتصدر المشهد لإمكاناتها الكبيرة وطرق معالجتها للأزمة، وستتعالى الأصوات المطالبة بمعالجة التشوهات والاختلالات التي تعرضت لها الصحة العالمية، والتنمية المستدامة، والتجارة الدولية، وحقوق الإنسان، وأيضًا قطاع العمل والعمال، والسياحة، والتوظيف، والقطاع الصحي، فضلًا عن القيم الغربية، وستزدهر المعرفة وشركات تصنيع الأدوية، وسيكون للتكافل الإنساني النصيب الأوفر من الاهتمامات العالمية، من خلال الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، مع أنه ليس بمستبعد ظهور تيار يدعو إلى الانكفاء والتمحور حول مصالح الدولة الوطنية.
وللمقال تتمة