اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
كما هو معروف بأن الإنسان مركب من قوتين إحداهما طبيعية والأخرى عقلية، يتزود من الأولى ما يفيده في إشباع حاجاته الضرورية التي لا غنى له عنها في حياته دون أن ينزل إلى مستوى البهائم التي تمثل الصورة الطبيعية صورتها الخاصة، بينما على الطرف الآخر يستخدم الإنسان القوة العقلية التي يتميز بها عن سائر المخلوقات بالشكل الذي يجعله يحيا حياة كريمة يسمو بها العقل إلى منزلة علوية تستضيء بضوء الفكر والحكمة.
والقوة العقلية هي صورة الإنسان الخاصة التي انفرد بها عن غيره، واستحق بموجبها الحصول على شرف الإنسانية المتمثلة في ما يتوفر له من الصفات والأفعال التي تؤهله لأن يكون إنساناً يميز بين الخير والشر والجميل والقبيح، حيث إن العقل وخصائصه التي يأتي في مقدمتها التفكير والتمييز والروية، وما يجري مجراها من الفضائل العقلية هي خير ما يوهب الإنسان، وأفضل ما يحقق له أمور معاشه ومعاده، وكما قال الشاعر:
المرء بالعقل مثل القوس بالوتر
إن فاتها وترٌ عُدّت من الخشب
وقال أخر:
هيهات ما الفضلُ إلا ما حبتك به
أُم الفضائل من عقل ومن دين
والإنسان عندما يلتزم بالوسطية، بعيداً عن الإفراط والتفريط يستطيع أن يميز بين حاجات الجزء الطبيعي ومطالب الجزء العقلي، والتوفيق بينهما في حدود هذا التمييز مع ضرورة الاعتدال فيهما وإعطاء كلٍّ منهما حقه من السعي والاجتهاد دون طغيان أحدهما على حساب الآخر من أجل استقرار الحياة وازدهارها واستمرارها.
ولكن الإنسان في هذا الزمن طغى وبغى، وتجبر وتكبر متجاوزاً حدوده، وكاسراً قيوده إلى الحد الذي أصبحت المادة بالنسبة إليه تشكل محل اهتمامه الأول، منساقاً وراء رغباته المادية، وشهواته البهيمية بصورة أخرجته عن دائرة الدين ومحيط العقل، مرتكباً المظالم، ومقترفاً المآثم باسم الإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان، وهو أبعد ما يكون عنها.
وفي ظل استفحال هذا الوضع إلى الدرجة التي تجاوز الناس في الفساد مرحلة الغضب الإلهي إلى مرحلة استحقوا معها العقاب، اقتضت إرادة خالق الخلق، ومدبر الكون أن يعاقبهم على هذه الذنوب والمعاصي، فسلط عليهم أضعف مخلوقاته على هيئة جائحة وبائية، ارتعدت أمامهاٍ فرائص الجبابرة والطغاة، وانهارت قواهم، وخارت عزائمهم، وضعفت هممهم، دون أن يشفع لهم رصيدهم من العلم والتطور، وما يمتلكونه من المادة والقوى الدنيوية، وما يدعونه من امتلاك ناصية الحضارة والمدنية.
وتحت وطأة هذه الجائحة الوبائية يتعين على المسلم أن يؤمن إيماناً مطلقاً بأن المعاناة لن تدوم طويلاً والمصائب عادة ما تكون رحمة في لباس عذاب، وأن المنح في طيات المحن، وقدرة الله تجعل من النقم نعماً، والحوادث التي يتعرض لها المسلم فيها تكفير من ذنب. وإيقاظ من غفلة، وتعريف بقدر النعمة، وتوطين النفس على مواجهة الخطوب وصدق الشاعر حيث قال:
لا تكره المكروه عند نزوله
إن المكاره لم تزل متباينه
كم نعمة لم تستقل بشكرها
لله في طيِّ المكاره كامنه
وهذه الجائحة تحتوي على الكثير من الدروس والعبر التي يجب استيعابها والاستفادة منها بعد إنتهاء الوباء وانقشاع غُمته، إذ إن الوضع بعد الأزمة لن يكون كما كان قبلها نظراً لأن الأمور المثبطة والمحبطة، والمغارم التي حصلت للناس أثناء الجائحة من الطبيعي أن تكون فرصة للتنبيه ومحاولة استثمار المغارم وتحويلها إلى مغانم، وقد قال الشاعر:
رب أمر تتقيه
جر أمراً ترتجيه
خفي المحبوب فيه
وبدا المكروه فيه
وانطلاقاً من هذه القاعدة فإنه من المنطق والمعقول أن يكون الناس بعد زوال الوباء، أقرب إلى الله بفضل الدروس والعبر التي اكتسبوها أثناء التعامل مع هذا الوباء ومقاومته، جامعين بين التوكل وبذل الأسباب، وبين التضرع إلى الله والصبر والاحتساب خاصة وأن التعايش مع الجائحة وفر للجميع فسحة من الوقت ليحاسب كل منهم نفسه لكي يعرف مالها وما عليها بعد مراجعة كشف حسابها، حيث يستطيع بهذه المحاسبة والمراجعة تحديد موقفه نحو ذاته وتجاه الآخرين.
ومعروف أن الإنسان اجتماعي بطبعه، يألف الاختلاط ويأنف العزلة، كما يميل إلى الرفقة وينفر من الوحدة نظراً لأن الناس بعضهم يأنس إلى بعض، والتباعد الاجتماعي الحاصل بسبب الوباء ترتب عليه تعليق صلاة الجماعة في المساجد، وتعليق الدراسة والعمل الوظيفي، بالإضافة إلى حظر الاجتماعات المنظمة والتجمعات غير المنظمة مهما كانت طبيعتها وغاياتها ومكانها وزمانها والكيفية التي تتم بها، وكذلك منع إقامة المناسبات الاحتفالية، ناهيك عن عمليات الحجر والعزل وفرض حظر التجول.
والمنحة المنطوية عليها محنة التباعد الاجتماعي والحجر المنزلي هي أن التباعد الاجتماعي خلق بيئة صالحة للتقارب الأسري فضلاً عن أن الحجر المنزلي كرّس هذا التقارب وأتاح للقائم على الأسرة استعادة دوره الأسري، وممارسة مسؤوليته التربوية عبر التئام شمل الأسرة مع بعضها، والتفافها حول رب البيت الذي يتحتم عليه أن يكون قدوة يُعلّم بعمله قبل أن يُعلّم بقوله.
والإجراءات الاحترازية والوقائية من الوباء إماطة اللثام أمام المجتمع عن الكثير من المظاهر والعادات الضارة التي من المفيد الإقلاع عنها مثل حب المظاهر والتبذير والإسراف والتقليد الأعمى والاستخدام الخاطئ لمواقع التواصل وغيرها، كما أنها صوبت بعض المفاهيم التي التبس أمرها على البعض في خضم الإعلام الرقمي والموجة المركوبة من قبل الدهماء.
والممارسات المتسيّبةِ والتجمعات القاتلة للوقت والضارة بالصحة والعادات الفاسدة سواء المستورد منها أو البائد أصبحت تحت المجهر لمن له بصر وبصيرة، مما يتطلب أخذ العبرة من هذه الجائحة والعبور من خلالها نحو مستقبلٍ خالٍ من الممارسات الهابطة والعادات الساقطة.
وعزوف المواطنين عن السفر إلى الخارج بعد انتهاء الأزمة من الحقائق المسلم بها، بسبب ما يبدو في الأفق من تعقيدات السفر المنتظرة ومنغصات الإقامة واحتمالات العدوى، بالإضافة إلى ما قد تتمخض عنه هذه الأزمة من المثبطات والمحبطات على المستويين الصحي والأمني، الأمر الذي يعتبر تصحيحاً لبعض المفاهيم المغلوطة بالنسبة لأولئك الذين جعلوا من قضاء فصل الصيف في الخارج قضية يؤمنون بها وغاية ينشدونها بدافع من التباهي بالثروة والبحث عن الوجاهة المزيفة والتقليد الأعمى والتنافس الممقوت.
وهذه الأزمة أزاحت الستار عن مسرح الأحداث وأزالت الغشاوة عن العيون لكي يكتشف هؤلاء إن قضاء فصل الصيف سنوياً خارج حدود الوطن لم يعد مقبولاً بعدما أصبحت هذه السياحة محفوفة بالمخاطر الصحية والأمنية في حين أن السياحة في الداخل أقل تكلفة وأضمن أمناَ وأجدى نفعاً وذات مردود إيجابي على الوطن والمواطن.
وعمليات الحجر والعزل أثناء الجائحة أوجدت مجالاً واسعاً للاعتماد على الشبكة العنكبوتية ونظام الأتمتة وكل ما له علاقة بالفضاء الرقمي، كما هو الحال في الاجتماعات الافتراضية والتعليم عن بعد ومزاولة العمل الوظيفي عن بعد، وهذا الاعتماد جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه للتوسع في استخدام وتوظيف هذه التقنيات في المستقبل، على الرغم من انعكاس ذلك سلباً على الوظائف ومجالات التوظيف باعتبار هذه الخدمة تخدم الإنسان من جهة، وتضره من جهة أخرى.
والمنحة التي لا يعادلها منحه هي أخذ العبرة من هذه المحنة وتمحيص وتحليل الدروس المستفادة منها، ثم يأتي بعد ذلك الاعتبار من حالة الضعف الإنساني أمام هذه الجائحة التي وضعت دول العالم تحت التجربة والاختبار وبالتحديد النظم الحاكمة، وقد أثبتت قيادة المملكة أن القيادة الناجحة هي قيادة القدوة وأنه كيفما تكون القيادة يكون المقودون، حيث انعكست مواقفها الإنسانية وردود أفعالها العقلانية ومبادراتها القيادية على المواطنين من خلال القيادة بالقدوة التي يعود إليها الفضل في نجاح الإجراءات الاحترازية والوقائية من جهة، وبلورت موقف المواطن في الاتجاه الصحيح من جهة ثانية، وتجسيد روح الوطنية من جهة ثالثة، واستنتاج الدروس والعبر من جهة رابعة، ورؤية نور المنحة من داخل نفق المحنة من جهة خامسة.
والمملكة بوصفها تعتبر واحدة من دول العالم التي تعاني من هذه الجائحة الوبائية العالمية، فإنها تتأثر بما يحدث في هذه الدول كما تؤثر فيها خاصة فيما يتعلق بالمكافحة والوقاية التي تحتاج إلى التعاون والتضامن بين جميع دول العالم، بغية القضاء على الوباء والتكيف مع ما سوف يطرأ على الوضع العالمي من تغييرات حتمية وتحولات إستراتيجية لم تكن متوقعة قبل ظهور الوباء وانتشاره عالمياً.