د. محمد عبدالله العوين
كما تنشأ علاقة قد تتطور وترقى إلى ارتياح ثم مودة ثم صداقة بين الإنسان والإنسان تنشأ أيضاً علاقة مودة بين الإنسان والجمادات.
قد تتولد هذه العلاقة الحميمة بين الإنسان والمكان حينما يطيل فيه المقام فيألفان بعضهما، فالإنسان يحن إلى (البيت أو الشارع أو السوق أو المسجد أو المدرسة أو المزرعة) ويرتبط بالمكان ارتباط عواطف وأشجان وذكريات، تشكّل له في ذاكرته البعيدة رموزاً تنتج دلالات عميقة على من أحب في هذا أو ذاك، فهنا في هذه الزاوية تناول قهوته مع والده، وهناك في طرف الحديقة جثا بين يدي أمه ولثمهما، وهنا عند عتبة الباب الخارجي وقف يحجز دمعة وداع حارة لابنه المبتعث، وفي ذلك المجلس الصغير تمت خطوبة ابنته الكبرى، وهنا عند باب الصالة تعثرت ابنته الصغيرة في مريولها الرمادي وهي تتقافز فرحة بدخولها المدرسة.
الإنسان هو من يمنح ويغدق بسخاء مشاعر الحب والمودة، فيلثم كل زواية، يقبل كل عتبة، يتمسَّح بكل عمود، يقف عند كل فيء ظل من أحب وسكن هذا الجماد وعايش شمسه ونام تحت قمره واستنشق هواءه.
كما قال قيس بن الملوح العامري:
أمر على الديار ديار ليلي
أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وإذا كان هذا الشغف للمكان على هذا النحو من العذوبة والرقة والشاعرية؛ فإنه من باب أولى أن تنشأ علاقة حميمة عميقة بين الإنسان والشجر.
الشجر يشعر ويحس ويتألم ويفرح ويحزن، قد لا نفهم معجمه، قد لا ندرك لغته، بيد أن الحاذق الفطن حين يتأمل البذرة وهي تبدأ شق التربة باحثة عن مخرج لتبدأ في شم نسمة الهواء الأولى ورشفة الشمس الأولى وندى قطرة الماء الأولى يدرك بحسه ودقة ملاحظته أن كائناً حياً يتولّد اللحظة بين يديه وتتدفق الحياة في ساقه الأخضر الصغير.
وفي ظلال الحجر الصحي الذي فرضه الاحتراز من العدوى بالبقاء في المنزل هيئت لي الفرصة لمراقبة الشجيرات الصغيرة المتناثرة في حديقة منزلي، وبدأت معها علاقة حب وهوى وشغف ورحمة وعطف ومتابعة واهتمام وإطلالات متتابعة عليها في اليوم الواحد؛ إن لم يكن أحياناً بين ساعة وساعة.
لقد بذرت وزرعت وغمرت بالتربة الحبوب وحفرت ما يتسع لاحتضان جذور شجرة ليمون أو توت أو تين أو برتقال أو خوخ أو مشمش أو نبق أو عنب أو كمثرى صغيرة. لا، لم أكتف بأن أمكن الجذور في أعماق التربة؛ بل غذيتها بالسماد ورويتها بالماء وحنوت عليها بالدعاء.
كنت أمر عليها في الصباح وهي تتفتح ثم أزورها ظهراً وهي تجهد من حرارة الشمس فألطف الجو الحار عليها برش قطرات خفيفة، ثم أمسيها قبل أن يغلبها النوم بعد العشاء بقطرات ماء ندية.
أراقبها وأحنو عليها وأغني لها وأدلّلها، فهي ليست جماداً؛ بل كائنات حيَّة حساسة عطوفة لذيذة عبقة معطية سخية.