د.فوزية أبو خالد
تحدثت الأسبوع الماضي عن أشكال من مقاومة الجائحة، وقبلها كنت تناولت نعمة التعليم عن بُعد في هذه اللحظة الجارحة بالذات، وذلك فيما بدى سلسلة مقالات بدأتُ التورط بها شيئًا فشيئًا مع تورط الأرض ومن عليها من المخلوقات العاقلة بوباء كورونا. والواقع أن هذه المرابطة بالقلم في الصف الأول لمقاومة البلاء مع المنذورين لهذا العمل دون أن يكلفهم أحد إلا الضمير أو إدارة العزلة بعمل مقروء أو فعل خلاق لم يكن شرفًا أستطيع أن أسعى إليه أو أحشر نفسي مع فرقه النبيلة من الأطباء والكوادر الطبية والعمال والباحثين لولا أمانة الكلمة. ولذا فقد غمستُ يدي في الحبر بأصابعي العشرة إلى ما فوق رمانة كتفي دون توقع مني بأن مقالاً واحدًا لن يكون كافيًا للكتابة عن جائحة تعم العالم كله في حالة مساواة نادرة بين البشر في مواجهة رعب مصيري مشترك أين كان لونهم، عرقهم, طبقتهم, تعليمهم, نوعهم الاجتماعي, ديانتهم, ثقافتهم, أيدولجيتهم, دهاءهم السياسي, بساطة سريرتهم، وأينما كانت موقعهم على الخارطة العالمية.
ولهذا كان لابد لهذا المقال أن يكون وقفة تأمل في حالة «الحب عن بعد» التي خلقها التمرد السلمي على الجائحة مقابل تلك المفارقات الجارحة الناجمة عن طبيعة الجائحة وتطوراتها وتداعياتها المصاحبة على الصعيد المتداخل بين السياسي والاقتصادي والصحي والاجتماعي التي وإن كنتُ أتابعها عبر العالم إلا أنني أعيش تجربتها المباشرة من منتبذي الأمريكي في معتزلي بمدينة نيويورك.
***
الحب عن بعد مثل الحب عن قرب أو أكثر في تحديه. فلهذا النوع النادر من الحب لهفته الأولى ولواعجه ونشوته الأخيرة. وإذا كان التاريخ الوجداني للشعوب قد سجل سفراً عالمياً من شعر الغزل وعدداً لا يحصى من حالات الحب عن بعد بأشكاله الأولية والكلاسيكية ليس بدءًا بحب قيس وليلى ولا انتهاءً بحب روميو وجيوليت، فإن الحب عن بعد الذي جاء تمردًا على الجائحة واختراقًا حلالاً لخناق العزلة التي ضربت على عنق العالم كل في زنزانته الفردية الخاصة إلا ما خففه وجود عائلة، تجلى أيضًا في عدد من الحالات المتنوعة التي نقلت الحب بحد ذاته نقلة نوعية من العصر الحديث إلى عصر الدجيتل. فإذا كان ينطبق على جابريل ماركيز في قدرته على تسخير كذبة وباء الكوليرا ليعيش في عزلة البحر الكاريبي حرية الحب التي حرم منها وعاش على حلمها طوال حياته, تلك الكلمة القائلة أن الكذبة الوحيدة من بين كل أكاذيب العالم التي تستحق التصديق هي كذبة الحب, فإنه ينطبق على واقع الجائحة اليوم قول إنه من بين أجمل تجليات العزلة أنها أعادت الاعتبار للحب بالمطلق بلغاته الخمس التي تحدث عنها جاري تشبمان وأضافت عليه لغات أخرى كنا في جهل مطبق بها وللتو بدأ بعضنا في تعلمها أو في تخيلها, كما أعادت الاعتبار لطاقات أخرى كانت كامنة في الحب وكنا في عفلة عنها فصار علينا اكتشافها ومنها طاقة الحب عن بعد.
لا شك أن التقنية الحديثة والنوافذ الإلكترونية قد لعبت دور المخرج خلال هذه الجائحة في تأجيج أوار «الحب عن بعد» وفي تحويله من فكرة إلى تطبيق يومي، ولكن أدوار البطولة في الحب عن بعد قام بها البشر العاديون البسطاء وأشترك فيها كل فرد في العالم رأى في الحب لحظة حرية من العزلة وطاقة تحريرية من وحشة الوحدة.
* «فطلب القرب» الذي تلقته الطبيبة المداومة لأربعة وعشرين ساعة بمستشفى أمهرس بنيويورك «عن بعد» من قبل العاشق الذي حمل خاتم الخطبة على كف وروحه في الكف الأخرى ليقدمها لها من وراء القفزات وليتبادلا كلمات الحب وقبلاته عبر الكمامات لم يكن إلا حالة حب في منازلة العزلة.
الممرضة في مستشفى سانيا التي أخبرت زوجها بدموعها بأن أشد ما يحتاجه مرضى الكورونا في أوقاتهم الحرجة أو لحظاتهم الأخيرة هو ليس أوكسجين «الفنتوليتر» بل أوكسجين أبسط وأغلى, هو أوكسجين الحب بينما ليس بجانبهم أحد من أحبابهم وبطاريات جوالتهم فاضية، فما كان منه إلا أن ذهب مسرعًا ورجع محملاً بعدد كبير من شواحن الجوال، ولتكتمل بطولة الحب عن بعد فقد عادت دماء الحياة لعدد من المرضى بعد أن سمعوا أصوات من يحبون.
العاشق الستيني الذي بقي حاملاً لافتة كبيرة أيامًا عدة متنقلاً بها أمام نوافذ الجهات الأربع من واجهة المستشفى على أمل أن تلمحه تلك التي أستعد من أجلها أن يدخل منافسة شرسة مع الموت فكتب على لوحته «أنت لست زوجتي أنت حب حياتي
Love of my life».
***
يوم الجمعة 25 إبريل أبدى أندريه كومو حاكم نيويورك إعجابه بطاقة الحب التي تتمتع بها نيويورك والتي مكنتها ألا تسقط في الهواية التي بلغت شفاها كما لم تبلغها ولاية أخرى من الولايات الأمريكية, فبعد عدد وفيات عال فاق ما معدله 700 وفاة يوميًا، انخفض العدد نسبيًا على حد تعبيره. وإن بدى لي وكأنه أراد أن يصب ماء فصب كحولاً على الجراح إلا أنها وإن كانت تنضح من البئر الرأسمالي نفسه الذي يعد في هذه الجائحة الخصم والحكم والسبب والنتيجة، فإنها لا تصل لفداحة نصيحة رئيسه الذي نصح بشرب أو حقن المعقمات. وقد قال أندريه في المؤتمر الصحفي نفسه ليوم الجمعة، بعد 56 يوماً من الحجر الصحي الطوعي في نيويورك: تم إنقاذ مئة ألف نعم مئة ألف نسمة كانت التقديرات الإحصائية الطبية قد رشحتها لإصابات بفيروس كورونا تتراوح بين شديدة وخطرة. أما كلمة الختام التي لفتتني إذ بدى لي كأنه استعارها من القرآن, فكانت قوله: على النيويوركين أن يفخروا بأن كل منهم بالتزام الحجر قد ساهم في انقاذ حياة كل واحد من هؤلاء المئة الذين لم يصابوا كما كان متوقعاً.
***
أقفلتُ التلفزيون بعد عادتي الصباحية الجديدة في متابعة المؤتمرات الصحفية المتعلقة بتطورات الجائحة والتجأت من عزلتي إلى ملاذات الحب.
يبرحني الحنين إلى رمضان بلادي كما يبرح أهل وطني الحنين إلى رمضانهم المشتعل عادة باللقاءات وبشجن دعاء صلاة التراويح بينما يبدو ليل رمضان الآن كالليالي اليتيمة غارقًا في الصمت أو البكاء. أرفع رأسي إلى سماء مانهاتن الملبدة فأحس بلوعة طفل انفلت من يده خيط طيارة ورقية ولكن لدهشته يلمح نجمة تلوح له عن بعد.
***
أجلس على مائدة إفطار في منتبذي وابتهل من أعماقي بالدعاء لأولئك القابعين في معازل المشافي وفي معازل الفقر أو الغربة وقلبي يعتصر على من يفارقوننا هذه الأيام وهم غرباء، لا جنازة ولا مجلس عزاء، رحمهم الله جميعًا ورفع عن وطننا هذه الجائحة وعن العالم أجمع. أفك ريقي بقليل من التمر والماء وأقطر على قروح روحي قليلاً من ماء الحب عن بعد.
***
يورجن هابرماس
الفيلسوف الألماني وواحد من الرموز الباقية لمدرسة فرانكفوت لم يكتف في قراءته لجائحة فيروس كورونا بالنقد السياسي للنظام الرأسمالي الغربي الأمريكي والأوربي سواء في إدارته أو إنتاجه، بل أضاف أن خبرات هذه التجربة الفردية والعامة التي أُكتسبت بآلام الفقد وبقسوة الحجر على حريات الإنسان الحيوية لصالح الحياة وبالخسارات الفادحة للاقتصاد ستكون جزءًا من المراجع الفلسفية والأخلاقية التي يكتب بها المستقبل.