كما نعلم أن كورونا ليس حدثًا عابرًا، بل يحمل العديد من الرسائل للعالم والسلطات والقطاعات والشعوب.. بل يحمل رسائل أعمق للأفراد. والرابح هنا مَن يفهم هذه الرسائل، ويتأملها، ويعرف محتواها، ويحللها، ويعمل على إيجاد آلية للتحسين والتطوير بذكاء عن طريق استخدام العقل لإيجاد الحلول، والتعامل مع جذور المشكلات لجني فوائد على المدى الطويل.
هذه الأزمة حركت كل الأنظمة، وكانت هدية لمن أراد أن ينظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس؛ فهي قدمت لنا مشاكلنا، ونقاط الخلل والضعف على المستويات كافة، وفي كل القطاعات. فكما هو معروف، معرفة المشكلة هي نصف الحل.
نحن كنظام بشري متوقَّع منه أن يصيبه وهن في أمور، وينجح ويبدع في أمور أخرى، ولكن الأهم أن نستمر بالتطوير والإقرار بوجود المشكلات، والعمل دائمًا على تحسينها من جذورها، وليس الاكتفاء بالتعامل مع الصورة الخارجية فقط.
ومن ضمن القطاعات التي كانت في المقدمة لحل هذه الأزمة، التي كانت المرجع الأول على مستوى العالم في جميع القرارات والاحتياطات، القطاع الصحي والقرارات الطبية. وفي الأغلب كان دورها الواضح في الإرشادات الوقائية والاحترازية لمنع انتشار المرض. ونعلم أيضًا أنه لا يوجد علاج متوافر حاليًا، والطب يتعامل الآن فقط مع الأعراض لهذا المرض. والأغلب ينتظر فرج، ووجود لقاح لحل هذه الأزمة.
أتساءل هنا: ماذا كان دور الطب والصحة العامة في علم الأوبئة على مَرّ العصور كحل جذري، وليس التعامل مع الأعراض، ابتداء من الأزمات القديمة، مثل الإنفلونزا الإسبانية، وإنفلونزا الطيور والخنازير، والآن كورونا؟ هل اللقاح هو دائمًا الحل والعلاج السحري؟ هل سوف ننتظر حدوث المرض للبحث عن الحل؟ ألا توجد حلول أخرى، مثل تفعيل الطب الوقائي، وتعزيز الصحة العامة، والبحث في ماذا كان دوره بعد زوال وانحسار تلك الأزمات الصحية في السابق؟
نحن نعلم أهمية دور الطب في دراسة المرض وتشخيصه، ومن ثم تقديم العلاج غالبًا بطريقتَيْن، بدواء كيميائي، أو تدخُّل جراحي إذا لزم الأمر. وهو دور جد مهم إذا حدثت المشكلة، وهي المرض. ونعلم أنه علاج فعّال لإنقاذ حياة العديد من البشر. كما لا ننكر أن دور الطب هو دور رئيسي في علاج الأمراض عند حدوثها، والتعامل مع الأعراض الشديدة. ولا ننكر أهمية اللقاح في الحد والقضاء على العديد من الأمراض المزمنة التي كانت منتشرة في السابق، وسبَّبت العديد من الوفيات، مثل شلل الأطفال، والتهاب الكبد الوبائي، والحصبة الألمانية، والنكاف.. وغيرها.
هل كورونا آخر الأزمات الصحية والأوبئة العالمية؟ وهل في كل مرة ننتظر لقاحًا وحجرًا صحيًّا في كل أزمة صحية؟ ماذا قدمت الصحة العامة والطب في تعزيز الطب الوقائي والمناعي؟ فأجسامنا يوجد فيها نظام مناعي جبار، لكن تم تلوثيه وإضعافه بالعادات الخاطئة، والسلوك غير الصحي؛ وأصبح جهازًا مناعيًّا خاملاً جدًّا، لا يتحمل أي وعكة صحية بسيطة.. ورُسِّخت في أذهاننا الصورة النمطية بأنه لا علاج إلا بالأدوية واللقاح حتى في أبسط الأعراض.
كيف يتم تفعيل رسالة كورونا للطب تحديدًا في مجال الطب الوقائي؟ فالطب الوقائي مظلة كبيرة، تشمل جوانب عديدة، منها مجال الصحة العامة، والوقاية من الأمراض بمنع حدوثها، والتقليل من مضاعفاتها. ويكون ذلك بآليات وطرق عديدة، منها: تعزيز نمط حياة صحي شامل لجميع النواحي الجسدية والنفسية والاجتماعية، وما يتبع ذلك من تعزيز نمط حياة وغذاء وممارسات وعادات سلوكية صحية، من رياضة وبيئة صحية وهواء نقي.. فكما رأينا من الملاحظات الأولية لكورونا أن المرضى الذين لديهم مشاكل صحية، ومناعتهم منخفضة، هم الأكثر عرضة للأعراض الشديدة، في حين أن العديد من الأشخاص لديهم المرض، ولا يشعرون بأي أعراض. وهذا يفسِّره احتمالات عدة، منها أنه لا يوجد لديهم مشاكل صحية، ولديهم نظام مناعي قوي معزَّز بشكل فعّال من جميع النواحي؛ فعندما حصل المرض تصدى له جهاز مناعي مجهَّز، ومستعد للعمل بالشكل المطلوب، وبأقل الأضرار.
تفعيل الطب الوقائي والصحة العامة بشكل واقعي وملموس يتطلب تكاتف جهات عدة. وهو مسؤولية الجميع من أطباء وأخصائيين في المستشفيات والرعاية الأولية، ومسؤولين في القطاعات الأخرى. وكذلك مسؤولية الأفراد بتوعية أنفسهم، والتصرف بمسؤولية ووعي.
بتكاتف هذه الجهود نكون قادرين على مواجهة الأزمات الصحية الحالية والمستقبلية، بنظام طب وقائي مناعي توعوي، وبحلول جذرية فعّالة، تعطي ثمارها على المدى الطويل.. لكن متى؟ وكيف؟ وما هي الآلية؟ أترك هذه الفكرة والإجابة للمختصين في هذا المجال وأصحاب القرار.
** **
وفاء سعيد الأحمري - محاضر بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن - طالبة دكتوراه في التأهيل الطبي - المملكة المتحدة