تحتل نظرية الأنظمة الحيَّة في هذه الأيام مركز الصدارة في العلم. وتتم فيها رؤية أن التنظيم الذاتي، وبتعبير آخر، الاستقلال الذاتي، علامة الحياة الفارقة؛ وهذه الفكرة يتم سبرها في أنواع عدة من السياقات، فيدرسها على مستوى الخلايا هومبرتو ماتورانا وفرنشيسكو فاريلا وتدرسها على مستوى الأسرة مدرسة ميلانو، ويدرسها على مستوى المجتمع نيكلاس لومان. وفي كل هذه الحقول استكشف العلماء الأنظمة الحيَّة، والكليات المتكاملة التي لا يمكن أن تُختزل خواصها إلى خواص أجزاء أصغر منها. وتتيح نظرية الأنظمة طريقة جديدة في رؤية العالم وطريقة جديدة تُعرف بـ»التفكير على أساس الأنظمة» أو «التفكير النظامي» وهذا يعني التفكير على أساس السياق والعلاقات والنماذج.
وقد برز في نظرية الأنظمة الحيَّة منذ ثمانينات القرن الماضي مفهوم «قابلية التعزيز» وله الآن الدور المهيمن. وليس ما يعزِّز في الأنظمة القابلة للتعزيز هو النمو أو التطور الاقتصادي. وإنما هو النسيج الكلي للحياة الذي يعتمد عليه بقاؤنا طويل الأمد. وبكلمات أخرى. يُقصد أن تكون الجماعة القابلة للتعزيز على نحو لا تتعارض فيه طرقها في العيش والاقتصاد، وبناها وتقنياتها المادية، مع القابلية المتأصلة في الطبيعة لتعزيز الحياة.
إن شرط الوجود الاجتماعي هو الوجود في البيت، وشرط الإصغاء إلى الآخر هو الإصغاء إلى الذات. وإصغاء المرء إلى نفسه يواجه في ثقافتنا الحديثة صعوبات جمة. يقول إريك فروم في كتابه (الإنسان من أجل ذاته): «إن إصغاء المرء إلى نفسه شديد الصعوبة لأن هذا الفن يقتضي قدرة أخرى، نادرة في الإنسان الحديث: هي قدرة المرء على أن ينفرد بذاته. ونحن في الحقيقة قد أنشأنا رُهاب الانفراد؛ ونفضل أتفه صحبة أو حتى أبغضها، وأكثر النشاطات خلواً من المعنى، على أن ننفرد بأنفسنا. ألأننا نعتقد أننا سنكون في صحبة سيئة؟
أعتقد أن الخوف من أن نكون وحيدين مع أنفسنا هو إلى حد ما شعور بالارتباك، يقارب الرعب من رؤية شخص معروف وغريب في وقت واحد؛ فنخاف ونولي الأدبار. فنُضيع بذلك فرصة الاستماع إلى ذواتنا، ونستمر في جهلنا لأنفسنا».
على أنه لا مندوحة للإنسان الذي يود أن يتقدم في الحياة من فهم نفسه بعمق إذا أراد أن يفهم الذين حوله ويفهم العالم. فالمعرفة النفسية ليست اختصاصاً قد نميل إليه أو لا نميل، بل هي ضرورة لنا جميعاً مهما كانت اختصاصاتنا وتوجهاتنا. يقول إريك فروم في كتابه (فن الإصغاء): «كيف للمرء أن يعرف العالم؟ كيف للمرء أن يعيش ويستجيب كما ينبغي إذا كانت تلك الأداة التي ستعمل، والتي ستقرر، مجهولة بالنسبة إلينا؟ نحن المرشد والقائد لهذا الـ»أنا» الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكون القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الـ»أنا»، هذا الفاعل الأساس الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقظة».
فمشكلة الإنسان ليست مستحيلة الحل، ولكن يجب مع ذلك عدم الاستهانة. ونحن نجد في ثقافتنا العربية عند بعضهم نوعاً من الميل إلى الاستهانة بالمشكلات الخطيرة التي تواجه المجتمع أو الأمة، توهماً من أولئك الناس أنهم يسهلون حلها. وهم في الحقيقة في عدم تحليل المشكلة في مختلف أبعادها، وإيمانهم بحل سحري آت لا ريب فيه، إنما يعبرون عن يأس عميق من حلها وعن ميل دفين في إسكات كل محاولة جدية للتغلب عليها