عادل علي جودة
تمر الساعات والأيام، وتمضي الشهور والأعوام، وتتناثر الأحداث على جدار الذكريات، بعضها يغلفه السرور، وبعضها تحبسه الآهات في أعماق النفس مغسولة بحرقة الدموع.
وها نحن اليوم نستقبل أعظم الشهور روحانية؛ إنه شهر رمضان المبارك، والحديث عن رمضان، زمان ذو شجون وأشجان.
شجون تتصل بروحانية ترسم الابتسامة على الشفاه والجباه، وخيرات تنتفض محمولة على نبض القلوب النابضة بالحياة، وخصال تبدد الفرقة بالتسامح وتعمق جسور الود والإخاء.
وأشجان تذهب بعيداً في أعماق قضيتنا، وما عايشناه من قسوة وحرمان، وما واجهه الآباء والأجداد من ظلم وقهر وعدوان.
وتبقى ذكريات رمضان تعمر الوجدان، سيما ذكرياته في أواخر خمسينيات القرن الماضي وستينياته، ذكريات متنوعة متشابكة تدغدغ الخاطر وخصوصاً ما يتصل بالجانب الاجتماعي، فاجتماعات العائلة في مساءات رمضان لها في النفس وقع خاص، إذ كان الناس في غير رمضان يفتقدون للجلسات الأسرية بحكم ظروف الحياة الصعبة التي كانوا يعيشونها، وأذكر أن والدي - رحمه الله ورضي عنه وأرضاه - كان يعمل في فلاحة الأرض، فكان يخرج إلى عمله مع بزوغ أول خيط من النور، أو لعلي أقول في ليل الصباح، ويعود في ليل المساء بعد غروب الشمس، لكنه في شهر رمضان كان يعود للبيت قبيل أذان المغرب.
في تلك الأيام لم تكن هنالك أية وسيلة للتواصل سوى الزيارات، وكم كانت طفولتنا البريئة تملؤنا فرحة بالضيوف، وخصوصاً إذا كان الضيف من العمات والأعمام والخالات والأخوال، إذ تمتد زياراتهم لليوم التالي؛ أي أنهم يبيتون ليلتهم بيننا فنقضي أوقاتاً ممتعة مع أحاديثهم وفي أحضانهم، وهأنذا أعود لتلك الأيام فأرى عمي الحبيب محمد عبدالحميد جوده؛ أبا فيصل - رحمه الله ورضي عنه وأرضاه - بابتسامته البهية وبحنانه ورقته، حيث كنا نستدير في جلستنا أمامه طوال الليل على ضوء لمبة الكاز (لعدم وجود الكهرباء) في تلك الغرفة الصغيرة، وكم كنا سعداء ونحن نستمع إليه وهو يحدثنا عن خيراتنا وأراضينا وبيوتنا التي سلبها منا الصهاينة، وكم كنت أنتفض افتخاراً وهو يحدثنا عن (والده) جدنا عبدالحميد وعن بيت الضيافة (الشق) المفتوح على مدار الساعة لأبناء العائلة، وأهل الحارة، وللمارّة، ولعابري السبيل، وكم ابتسمت من أعماقي وهو يخبرنا أنه (أي جدنا) كان معروفاً بأبي البكارج السبعة؛ إشارة إلى سمة الكرم التي كان يتحلى بها - طيب الله ثراه -، لقد كنا نشعر بالحرقة من خلال أحاديثهم عن جمال أراضينا وخضرتها، وروائح فاكهتها، وطيبة أهلها وشهامتهم، وتكاتفهم، وانتشار الخير بينهم، وكم تمنينا أن تتحرر بلادنا وهم على قيد الحياة، لكنهم غادروا والحسرة تملأ قلوبهم، وها هي تنهيدتي تعانق دعوتي أن يمنَّ الله علينا بإزالة ما يعصف بنا من خلافات وانقسام وفرقة وخصام، وأن يهدينا لجمع الكلمة، وتوحيد الصف، ورفع الراية لتطهير أرضنا ومقدساتنا، لعل الله ينصرنا فنقدم النصر إهداءً لأرواحهم الطاهرة.
بالطبع جلسات الأهل والأصدقاء اليوم تختلف عنها في ذلك الزمان، فجلسات اليوم أصبحت تقتصر على التقاء أجساد بلا أرواح، فالحواس تخطفها الجوالات، إذ يجلس كل واحد منشغلاً تماماً بهاتفه الجوال؛ يستقبل رسائل الواتساب ويرد عليها، أو يضع تعليقاته على صفحات الفيسبوك ويقرأ الردود عليها، وهكذا دواليك إلى أن تنتهي الجلسة، ويتفرق الجميع حاملين ما أتوا به من أخبار، إذ لم يكن أكبر همهم الاطمئنان عليك، أو اطلاعك على همومهم وأخبارهم، بينما في رمضان زمان كان للقاءات نكهتها الخاصة، وأروع ما كان يميزها أنها كانت لقاءات محبة ومودة تتلاقى فيها الأجساد والحواس؛ فالحديث يكون لك، والإنصات لك، والنظرة، والضحكة، والهمسة، كلها لك.
وبالرغم من عدم وجود وسائل التنقل التي ننعم بها في أيامنا هذه، إلا أن التواصل كان مستمراً دون انقطاع، فلا يكاد يمر يوم دون أن يطرق باب بيتك زائر، أما اليوم؛ فبالرغم من تعدد وسائل المواصلات وتوفرها لدى الجميع بما فيها السيارات، إلا أنك لا تحظى بزيارة أحد إلا بدعوة رسمية واستعداد مسبق، لدرجة أن البساطة اختفت تماماً، فلم يعد يجدي فنجال القهوة والتمرة، أو كأس الشاي والكعكة.
ومن الذكريات الجميلة الراسخة في الذهن، ما يتصل بوجبات السحور والإفطار، وخصوصاً النهج الذي تختص به وجبة السحور دون غيرها، حيث كنا نفرح لأننا نصحو في وقت محدد لتناول وجبة محددة مميزة باسم خاص بها وحدها (وجبة السحور)، ثم نمسك في وقت محدد عرفناه بتبين الخيط الأبيض من الأسود، ثم في وقت محدد تأتي الفرحة مع حلول موعد الإفطار، ومن الذكريات التي نقشت في أذهاننا، ويعتصر قلوبنا الحزن ونحن نفتقدها اليوم صوت المسحراتي وشدوه الروحاني الجميل بنغمة عذبة وصوت بهيج مع ذلك الإيقاع المميز على الطبل، ويا لها من كلمات تستقر في الأعماق: «اصْحَ يَا نَايِمْ وَحِّدِ الدَّايِمْ».
أما الوجبات، فما زلت أذكر الأصناف التي كـانت تعــد لوجبة السـحور، إذ كــان يراعى فيها (وفقاً لقناعة كبارنا) ألا تسبب العطش، مثل الحلاوة الطحينية، والمربى، وجبنة القشقوان، والفول، إضافة إلى مشروب قمر الدين الذي أيضاً له طريقته الخاصة في الإعداد؛ حيث كنت رغم صغري أحرص على مشاهدة والدتي - رحمها الله - وهي تضع (تنقع) قطع قمر الدين في الماء قبل النوم، فيكون جاهزاً للشرب وقت السحور، وها قد تغيرت الحال فبات من النادر تناوله.
وعلى القدر نفسه من الجمال الخاص بالسحور، كانت هنالك ذكريات عابقة مع وجبة الإفطار، وخصوصاً الوقت الأخير قبيل أذان المغرب، حيث كنا نقف على الأبواب منتظرين صوت المؤذن لنهرع إلى أهالينا نزف إليهم خبر رفع الأذان، وبالمناسبة لم تكن مكبرات الصوت موجودة في تلك الأيام، بل كان مؤذن المسجد الوحيد في مخيم دير البلح؛ وهو ابن العائلة الكبير؛ عمّنا الفاضل الشيخ الجليل (علي النجار) - رحمه الله - يصعد الدرج إلى شرفة الأذان؛ تلك الشرفة المرتفعة بعض الشيء عن سور المسجد، والمطلة على الشارع العام في مخيم دير البلح، ومن ثم يرفع الأذان بصوته الجهوري العذب وسط سكون الناس، فيُسمع صوته بوضوح، وبالطبع تكون السفرة جاهزة بالأكلات الشعبية المعروفة، ولا أنسى ذلك الخبز الذي كانت تعده أمي - رحمها الله - وكنت أراقبها في كل حركاتها بدءاً من إعداد العجين، وتقطيعه، ورقّه، حتى خبزه في فرن الطين، يااااااه؛ كم أشتهيك يا رغيف أمي بل كم أتوق لأشتم رائحتك.
ومن ذكريات رمضان زمان الجميلة تلك الألعاب التي كنا نلهو بها في مساءات رمضان، والتي تتسم برونق خاص، ومن أهمها لعبة (الْاُسْتُغُمَّايَة) حيث كان أحد الأطفال يضع منديلاً (قطعة قماش) على عينية، ثم يبدأ العدَّ للعشرة يختبئ أثناءها الأطفال الآخرون، وبعد نهاية العدِّ يرفع المنديل عن عينيه ويباشر البحث عنهم حتى يرى أحدهم فيقول له (شفتك يا فلان، أنت في المكان الفلاني، وعليك الدور)، فيأتي ويضع المنديل على عينيه ونحن من حوله، ثم يبدأ العد للعشرة، وهكذا. وأذكر أنني كنت أتسلق جذوع أشجار النخيل التي كانت تملأ دير البلح وخصوصاً طريق عكيلة الذي يأخذني الشوق إليه، والأمر المحزن هنا أن أشجار النخيل التي كانت تزدان بها دير البلح لم يعد لها وجود إذ حل محلها العمران.
وبالطبع كانت هنالك ألعاب أخرى ما زالت خالدة في الذاكرة ومنها لعبة (صَفَّطَتْ) وأدواتها (طابة؛ وهي عبارة عن بالون مملوء بالهواء يلتف حوله خيط صوف حتى يغطيه تماماً، ثم يوضع داخل شراب، وسبع قطع دائرية صغيرة من الحجارة)، حيث توضع الحجارة فوق بعضها البعض، ثم نقسم أنفسنا إلى فريقين، ويقوم كل فريق بقذف الطابة نحو الحجارة من مسافة محددة، فإذا أسقطها الفريق (أ) يُطلب منه إعادة ترتيبها، وفي الأثناء يحاول الفريق (ب) إصابة الطفل الذي يقترب من الحجارة بالطابة، فإن أصابته الطابة خرج من اللعبة، وغالباً لا ينجح الفريق في إعادة (تصفيط) الحجارة.
ولعبة (الفوازير) وهي مفيدة في إثراء المعلومات لدى الأطفال؛ حيث يتم تقسيم الأطفال إلى ثلاثة فرق، فريقان خصمان يجلس كل منهما أمام الآخر وبينهما مسافة 100 متر تقريباً، وفريق تحكيم يجلس في وسط المسافة، ويبدأ الفريق الحكم في طرح الأسئلة، فإذا وُفّق أفراد الفريق(أ) في معرفة الإجابة، يهرولون نحو الفريق(ب) ليحملوهم على ظهورهم إلى موقعهم... وهكذا.
تلكم بعض ذكريات رمضان، والقائمة تطول، وكلها محفورة في سجل الزمن الجميل الذي لم يزل حاضراً وسيبقى عالقاً في الفكر والوجدان مادام هنالك قلب ينبض.
تقبل الله منا جميعاً الصيام والقيام وصالح الأعمال، وصرف عنا هذه الجائحة وعن المسلمين والناس أجمعين، اللهم آمين يا رب العالمين.