هدى مستور
أول قصة وقعت في تاريخ البشرية أرضها الجنة، وبطلاها أبونا آدم وزوجه عليهما السلام، وكائن ناري ثالث، سُمي شيطانًا، والشجرة.
تدور عقدة القصة حول استجابتهما عليهما السلام لوسوسة الشيطان حين دغدغ بداخلهما رغبات التطلع إلى واقع أكثر سطوة ونفوذًا، وديمومة وخلودًا. شرطه يبدو بسيطًا مقابل هذه الهبات الباذخة، وهو: أكل ثمرة من الشجرة المحرَّمة. عصيا الله تعالى، ثم تابا واستغفرا؛ فشملهما الله بعفوه، ومغفرته.
هذه القصة لم تكن لتسرد في مواضع من القرآن -فضلاً عن ورودها في الكتب السابقة - لمجرد الاعتبار السطحي، والفقه الوعظي، أو لعرض تاريخ أنسنة الإنسان، أو حتى على سبيل التسلي والتسري القصصي...
إنها واقعة تحلل الطبيعة البشرية بإعادتها إلى الأصل في تكوينها، وعلاقتها بأول تجربة قرار بشرية، من نوعها، يظهر فيها الصراع بين مكامن القوة والنور، ونوازع الإغواء ومفاتن التحدي، في عمق النفس البشرية، ودفع ثمن ذلك بالاعتراف باستحقاق تداعيات الخطأ في الاختيار، التي تستوجب الشفاء بالعقاب، وهنا تكمن المسؤولية الحرة.
فآدم نفخ الله تعالى فيه من روحه القدسية، ثم خُلقت من ضلعه زوجه، إيذانًا باجتماع مادتَي الذكورة والأنوثة فيهما معًا بنسب تتفاضل بحسب تفاوت أصل مادتَيْهما، فضلاً عن اشتراكهما في شرف الروح العليا.
جاء «الجسد» كإطار مادي مكثف، له احتياجاته الحسية، ورغباته الجسدية، وكذلك فهو يتصل بالخارج عبر قنوات الحواس الخمس، ومن خلال الحواس تنتقل التجربة عبر العقل، مرورًا بمركزية القلب، ومنهما تحدث عملية الإدراك؛ إذ تتولد الأفكار، وتضخ المشاعر، وتتراكم الانطباعات، والتصورات، وتتجسد في الممارسات السلوكية.. ومجموع ذلك كله يتألف منه شخصية الإنسان.
وبجوهر الجسد تقطن البصيرة، والحكمة، والسكينة، والنور والفطرة؛ إذ تستقر فيه «الروح».
وبينهما (أي بين الجسد والروح) حبل قد يوثق، وقد يرخى، وربما ينقطع بحسب الاستجابة للأقوى منهما في قوة نوازعه وحركته وسلطته. إنها «النفس الإنسانية».
وبمجموع المفردات السابقة (أي الشخصية، والروح، والنفس) تتألف «الكينونة» الإنسانية.
والنفس يمكن قياس مدى صلابتها أو هشاشتها، سعتها أو ضيقها، سلامتها أو انتكاستها، من خلال القرار؛ فإما الانخراط الفوري، والاستجابة القوية لجمال الفطرة، ولنداء الروح، أو اختيار الحركة الضعيفة المترددة الناشئة من قوتين، تتنازعان الجذب. ويتبين الحكم على السطح من خلال مجموع النوايا، والأفكار، والمشاعر، والرؤى والتصورات، وكذلك كل الممارسات السلوكية. أما الحاكم على تلكم العملية الدينامية الناشئة فهو الله تعالى؛ فهو مَن يملك الحق إذ قد وصف نفسه بـ»الرقيب» و»الخبير» و»العليم» سبحانه.
والله تبارك وتعالى قد كرَّم الإنسان بقيمة رفيعة ومقدسة، هي «الحرية»، التي تؤهله لمنصب الحاكمية على النفس، أو بتعبير آخر المسؤولية {بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (14 القيامة).
وكذلك فقد وهبه تبارك وتعالى وخصه بالاستعداد، فضلاً عن الأدوات؛ الأمر الذي يمكِّنه من الغوص في أعماق نفسه، وقياس درجة خروجها عن اتزانها، من خلال الضمير الحي (النفس اللوامة)، والبصيرة النافذة، والوعي اليقظ؛ الأمر الذي يمكنه معها ممارسة العزلة الذهنية، والمراقبة الصامتة، بعيدًا عن صخب الرغبات، وضجيج الانفعالات.
إذًا فالإنسان نفسه، ووحده، ولا يشاركه مسؤولية ذلك غيره من البشر - ولو كان شديد الالتصاق به -، هو مَن يملك القدرة على تمييز نواياه المختلطة، وتمحيص رغباته الدفينة، والتفريق بين قوى السمو العلوية، ونوازع الغواية الأرضية.
وفوق ذلك فقد منحه الله قوة داخلية مستمدة من نور لا ينضب تأثيره، ولا يضعف فتيله... إنها «قوة البصيرة» التي تمكِّنه من اكتشاف طريق الفرقان، وكذلك «قوة الإرادة» التي تمنحه شجاعة فائقة لاختيار سلوك هذا الطريق دون غيره من المشارب.
وفيما قد تأكد لدينا أن القوة الحقيقية هي مستقرة بدواخلنا إلا أن القوى التي تتنازع الإنسان هي قوى زائفة؛ لأنها جاءت من مصادر خارجية أولاً، فضلاً عن كونها لا تتمتع بديمومة الجهة، وبصلابة المادة. فهي إما أن تكون قوة نارية شيطانية، تتمكن من الإنسان من خلال استغلال رغباته، ونقاط ضعفه، كرغبته في التمتع بالخلود أو السلطة والملك، أو قوة طاغية سلبية من نفس الإنسان نفسه المعبر عنها بـ»النفس الأمَّارة»، التي لا تفتأ تُشعر صاحبها بنقصه! وتدفعه للسخط على واقعه، وأرضه، وتملي عليه أفكارًا للبحث عن مصادر للقوى خارج حدود مملكته.
وحين تلتحم هاتان القوتان الزائفتان يتمخض عن ذلك اتخاذ الإنسان قرارات، قد تكلفة حياة بأكملها.
يحدث ذلك، في حين كانت الفرص مواتية ومتتابعة، وكان بوسعه، وبمحض إرادته، وحرية اختياره، أن يستمتع راضيًا بـ»جنة عدن».
إذًا، عقدة قصة «آدم» و»حواء» تتكرر بعدد ذريتهم، وهي قصة لم تنتهِ، ولم ينقرض أبطالها بعد.