تعد المملكة العربية السعودية باتساعها الجغرافي وتنوعها البيئي والثقافي، من أكثر دول العالم تنوعاً في مكونها التراثي، فهي على مستوى التراث العمراني غنية بتنوع غير محدود من القرى والمدن التاريخية والمباني التقليدية التي تملك مقومات عمرانية كبيرة ذات قيمة تاريخية وثقافية وجمالية عالية، تستحق أن نحافظ عليها ونستثمرها من أجل الأجيال اللاحقة.
يمكن تعريف التراث العمراني على نحو مبسط بكونه، (كل ما شيّده الإنسان من مدن وقرى وأحياء ومبانٍ، مع ما تتضمنه من فراغات ومنشآت لها قيمة عمرانية أو تاريخية أو علمية أو ثقافية أو وطنية، وإن امتد تاريخها إلى فترة متأخرة).
وتشمل مباني التراث العمراني: القصور والمباني التاريخية والقرى والأحياء التراثية، ومراكز المدن القديمة، ويدخل في ذلك القلاع والأبراج الدفاعية، والمساجد والأسبلة، والمدارس والحمامات، أو ما في حكمها، أو ما يشابهها من مبان كان تأسيسها مرتبطاً بأحداث تاريخية أو دينية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو أمنية، أو سياسية، أو ثقافية، أو كان إنشاؤها يعكس نمطاً أو أنماطاً وطرزاً فنية في العمارة، أو الفنون الزخرفية المتصلة بها، بحيث تكون ذات دلالة على مدرسة فنية، أو حضارة تاريخية لها جغرافية معينة أو مدة زمنية محددة.
والتراث وعاء الحضارة وماعون الثقافة؛ فهو يحفظ الخصائص الجوهرية للأمة التي تميزها عن سواها؛ فتجسد عراقتها، وتسجل تاريخها، والتاريخ هو دالة الأمة ومصدر إلهامها، خصوصاً إذا كان هذا التاريخ يستند إلى منظومة حضارية لها تجاربها التي تراكمت عبر العصور؛ فشكلت هويتها ورؤيتها الخاصة، وحددت آفاقها المستقبلية.
والمملكة العربية السعودية غنية بتراث عمراني أصيل، يعكس جوانب حضارية من تاريخ الأمة، وينتشر هذا التراث في محافظات المملكة ومناطقها المختلفة، ويعكس -في الوقت ذاته- شخصية كل منطقة، في ظل وحدة العمران الإسلامي، وتكمن أهمية التراث العمراني بصفة عامة، وفي المملكة العربية السعودية بصفة خاصة، في مجموعة من القيم والجوانب، أهمها:
1000 موقع في سجل التراث العمراني
انطلاقاً من كون المملكة العربية السعودية تزخر بعدد ضخم من مواقع التراث العمراني؛ فقد قام مركز التراث العمراني بحصر وتسجيل أكثر من ألف موقع في سجل التراث العمراني منها نحو 800 موقع قابلة للاستثمار في الوقت الراهن.
ويتيح هذا العدد الضخم من المواقع الموزعة في كل مناطق المملكة، الفرصة لتنويع موارد الاستثمار ودوامها، كما يتيح تعدد تلك المواقع تنوع الفرص أمام المستثمر لاختيار الموقع من حيث درجة أهميته.
والخصائص المميزة لمباني التراث العمراني القائمة، أنها تمثل موارد يمكن استثمارها بدلاً من إنشاء مبانٍ جديدة؛ لتعود بالفائدة على المستثمر بتوفير قيمة الإنشاءات؛ وبالتالي تحقق زيادة في الدخل الحقيقي لعائد استثماراتهم، وتتمثل في تلك القيمة التي لم تصرف على إنشاء مبانٍ جديدة، وفي الوقت ذاته حافظت على التراث العمراني في الموقع، وأعادت توظيفه بما يحقق فرصاً استثمارية أخرى مساندة للاستثمار الرئيس، وهذه الفرص متاحة للمجتمعات والمؤسسات المحلية، وتتحقق منها عائدات مالية واقتصادية، بصورة متوازنة ومستدامة.
كما أن الدول التي تتوافر فيها الآثار والمواقع التراثية تتمتع بميزة إضافية، تمكنها من استقطاب المزيد من الاستثمارات السياحية؛ فالتراث العمراني يعد وعاءً لمعظم أنشطة السياحة الثقافية التي تشكل ما نسبته نحو 37 % من موارد السياحة العالمية، وتشير التوقعات المستقبلية العالمية إلى ارتفاع العائدات السنوية للسياحة في دول الشرق الأوسط بنسبة 89 % خلال السنوات العشر المقبلة.
التراث العمراني وفرص العمل
ويؤدي الاستثمار في مواقع التراث العمراني إلى كثير من المنافع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الناتجة من مشاريع إعادة تأهيل وتوظيف عدد من القرى التراثية، ومراكز المدن التاريخية، والأسواق الشعبية، والقلاع والقصور التاريخية، المنتشرة في مناطق المملكة، التي لا يزال معظمها بحالة جيدة يمكن إعادة تأهيلها واستثمارها؛ ومن ثم إتاحة فرص العمل للمجتمعات المحلية في تلك المناطق، والإسهام في الحد من ظاهرة الهجرة السكانية؛ وبالتالي استقرار السكان؛ نتيجة ارتباطهم بوظائفهم التي أتاحتها لهم مشروعات استثمار مواقع التراث العمراني.
وقد أكدت دراسة أعدتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالتعاون مع البنك الدولي بعنوان «تقييم الأثر الاقتصادي للتراث الحضاري في المملكة العربية السعودية» أن الاستثمار بالتراث الثقافي يولد منافع اقتصادية فورية وقصيرة الأمد، تشمل زيادة الوظائف والدخل مباشرة من ترميم المواقع، وتجديد المناطق الحضرية المتعثرة على المدى الطويل، مما يؤكد الآثار الإيجابية الناتجة من استثمارات التراث الثقافي.
وقدرت الدراسة إجمالي رحلات السياحة الثقافية في المملكة بعدد (6.3) مليون رحلة، فيما قُدر الأثر الكلي للإنفاق على السياحة الثقافية في المملكة خلال عام (2015م) بمبلغ (56.6) مليار ريال، كما قدرت فرص العمل التي تولدت عن أنشطة الزوار في مواقع التراث الثقافي والأنشطة التجارية المحيطة بها بـ(112) ألف وظيفة.
وتسهم أعمال ترميم التراث حسب الدراسة في توليد ما معدله (18) وظيفة، ودخل عمالة قدره (460) ألف ريال، وذلك لكل مليون ريال تم استثماره. وتسهم أعمال الترميم في أنشطة التراث الثقافي والتي أنتجت بطريقة مباشرة بـ(13.5) مليار ريال في الإنفاق الإجمالي في مواقع التراث، إضافة إلى ما مقداره (111.632) وظيفة ضمن وحول مواقع التراث في المملكة.
مركز التراث العمراني
وانطلاقاً من اهتمام الدولة بالتراث العمراني، وتوفير السبل النظامية للمحافظة عليه كمكون حضاري، جاء إنشاء «مركز التراث العمراني الوطني» بمبادرة من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني (وزارة السياحة حاليا) لتنفيذ مشاريع وبرامج منظمة لحماية وتأهيل التراث العمراني أسوة ببعض الدول التي بدأت مبكراً في الحفاظ على كنوزها الثقافية والتراثية، وتلبية لحاجة المملكة في المحافظة على تراثها العمراني، وتطويره وفق معايير علمية ونظامية تجعل منه تراثاً معاشاً وحياً يساهم في البنية الاجتماعية المعاصرة والمستقبلية.
وقد نتج عن ذلك العديد من المشاريع التي انتقلت مع المركز إلى كيانات وزارة الثقافة بناء على قرار مجلس الوزراء بتاريخ 31-12-2019م بنقل نشاط التراث من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني إلى وزارة الثقافة، ومن ضمن ذلك المواقع الأثرية والتراثية، حيث ستتولى «هيئة التراث» التابعة للوزارة مهام الإشراف على مواقع التراث العمراني في المملكة.