د.سهام صالح العبودي
للشاعر سويد بن أبي كاهل قصيدة تسمى (اليتيمة)؛ وبها عد من شعراء (الواحدة) الذين حالفهم حظ الشهرة بقصيدة طربت بترديدها الألسن، ومطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا
فوصلنا الحبل منها ما اتسع
اشتهر من القصيدة هذا المطلع الغزلي العذب، ويقول الشراح في معناه: إن المقصود بالحبل هنا هو (الوصل)، والمعنى: بذلت لنا وصلها، فوصلناها ما امتد وصالها!
وينبئ هذا البيت/المطلع -على عذوبته- عن هندسة محكمة لصوغ العلاقات الإنسانية، من خلال مثال صغير هو الشاعر ومحبوبته، وما بينهما من علاقة تجتلى حالاتها من الحبل؛ الذي يستأثر بتفسير شكل هذه العلاقة بكونه مفعولاً وفاعلاً يعتمد على فهم إشاراته في تقرير وجودها، والتفاعل معها، واتساعها، وبقائها.
تلفتني هذه العلاقة التي تقيمها اللغة مع (الحبل) في سياقات كثيرة لا حبل يرى، ولا يمسك فيها -حقيقةً- لكنه يكون حاضرًا بتجسيد طبقات هائلة، ومتنوعة من الدلالات؛ فيبدو مثل (رشاء) يتوصل به القائل إلى ماء معناه.
ولا تغيب عن ذاكرتنا الحافظة دلائل الحبل في القرآن الكريم؛ وأوضحها في قوله تعالى:
{وَاعْتَصِمواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، وتكفينا إطلالة خاطفة على معجم (لسان العرب) لنرصد توسع دلالات الحبل في كلام العرب؛ إذ يأتي في سياقات تعبيرية مصطلح عليها، وتفهم تلك الدلالات في نطاق معنوي يستعمل وظائف الحبل الحسية (الربط والامتداد): «الحبل الوصال.. وأصل الحبْل في كلام العرب ينصرف على وجوه منها العهد وهو الأمان».
وعودًا إلى بيت سويْد العذب الذي يشرح تكون العلاقة، مستندًا إلى فكرة (الحبل)، ومستثمرًا العلائق الحسية التي تقيمها اليد معه بناءً على حالاته التي يتحكم فيها الطرف الآخر: البسط، والوصل، والسعة: مثلث دال يخص العلاقات العاطفية (أكثر أشكال العلاقات الإنسانية تعقيدًا، وأصعبها إدارة)؛ إدارة يلخصها بيت من قصيدة قالها شاعر منذ قرون، قوامها أن ثمة إشارة مطوية في فعل، وذكاءً يلتقط الإشارات ويفسرها، ليكون التقدم منوطًا بهذا الفهم، والبقاء معولاً على الرغبة والإفساح المفهومين من دقائق الإشارات وشذرات الإلماحات؛ إنها مقايسة دقيقة يختبر الإنسان فيها طاقاته العقلية، والعاطفية، ويمسح فيها -سريعًا- على ذاكرة خبراته وتجاربه ومقروءاته كي يسعف قدمه بالخطوة الصحيحة!
في روايته (لائحة رغباتي) ينقل الروائي الفرنسي غريغوار دولاكور اقتباسًا عن فرانسواز ساغان تقول فيه: «الحب ليس فقط (أن تحب جيدًا)، إنه فهم على الأخص»؛ فالفهم ينقذنا من معضلات غير المحسات، يحمي خطواتنا في الدروب الزلقة ونحن نعبر إلى الآخرين، وقد كان يقال: إن نجاح العلاقات يقوم على ذكاء قياس المسافة، وفهم الإشارات، هذه التي على الإنسان أن يتصيدها كما لو كان قناصًا؛ ولا ريب فأصعب حروب البشرية هي تلك لم تطلق فيها رصاصة واحدة!
واليوم -ونحن في عصر التقنية الذي نرى فيه عن بعد- صار الإنسان يصرف إشاراته في الممرات الافتراضية لهذه التقنية: مؤشرات الظهور، علامات قراءة الرسائل، (الحالات) الملغمة بالشفرات والمكدسة برسائل الرغبة، والصد، وعلى مدى وجوده -الذي لا تعرف بدايته لم يعدم الإنسان وسيلة يسلم فيها رسائل مراده العاطفي: منذ أن استعمل إشارات جسده البدائية، إلى أن أسعفته اللغة بكل هذه الحمولة الهائلة من المعاني الصريحة والكنايات والاستعارات وكل ممكنات التعبير اللغوي على اختلافه، ولم يفت الإنسان أن يخزن رسائله، وإشارات وجدانه في الصورة، والموسيقى على أمل أن تصل صحيحة، وأن تفهم!
وأخيرًا فإن العلاقات مقدسة، ولولا ذلك ما أحاطت بها كل هذه الطقوس، بإشارات الرفض يمكن للناس أن يحرزوا حياتهم من الأشخاص الخاطئين، وأن يسمحوا بها لمن يظنون أنهم سيمنحونهم توردهم. وعندما فهم الشاعر إشارة محبوبته فتقدم مبادلاً وصلها بوصل، كان يضع (بروتوكولاً) عن غير قصد يقول فيه: إن الدرب الذي لم تصلك إشاراته الآذنة ليس مقدرًا له أن يكون دربك، فلا تعبره!