لا ريب أن للغة الفصحى أهميتها في الإبداع الفكري والأدبي, وعلى ذلك تشكلت صورة المثقف ضمن منظومة النخبة المثقفة (الأنتلجنسيا).
لكن, وفي ظلّ غيابها انحدرت الذائقة الجمالية إلى درك التردِّي, حين أطبقت العامية على مخارج اللسان العربي, وتقهقر الفكر المستنير, وغابت الثقافة ذات الدلالات العميقة, والمعاني الراقية, والمقاصد البعيدة التي تؤهل المتلبِّس بلبوسها ليكون أهلاً لسمو الفكر, ورقي اللغة, وسعة الأفق وصوابيَّة المنطق, وعلوِّ الذائقة وغيرها من المميزات التي لا تتوافر عادة إلاّ لدى المشتغلين عليها ممّن يسمون بالمثقفين.
ومن هنا يرى السهيمي أنّ للثقافة أثراً كبيراً في تنمية المجتمع وفي تطوره, فليس عبثاً أن قال سقراط للشاب الصامت: (تكلم حتى أراك), فهو يرمي إلى أبعد من الصوت, وتنميق الكلام, فهو يريد إظهار القيمة الحقيقية للمتكلم وصولاً إلى مسألة الفعل والممارسة والتطبيق.
هذا ما قاد السهيمي إلى واقع الثقافة المجتمعية العربية ,المفروضة غالباً, التي ارتضاها بعض المثقفين؛ وتتمثل برمتها في المؤسسات الثقافية الرسمية التي تجاوزت بعض لوائحها, وما نتج عن هذا التجاوز من تبعات أرخت ذيولها على الواقع الأدبي العربي.
ومن أهم هذه التبعات إقامة أمسيات شعرية باللهجات (العامية), ويرى أن مَن قاد إليها ممّن خَفَتَ عنهم الضوء, وبحثوا من جديد عن مساقطه, إضافة إلى دعوة بعض المثقفين إلى تبنِّي قواعد جديدة تنتظم فيها العامية, وكأنهم ضاقوا ذرعاً بالفصحى التي صعدوا على أكتافها, وحملتهم إلى جمهورهم ومتابعي نتاجهم الفصيح.
ويتابع: «لا أظن هرولات بعض المثقفين أتت إلا نتيجة طبيعية لعجزهم عن تقديم فعل ثقافي ذي قيمة فلجؤوا لخطب ود الشَّعبي والشَّارع, أو نتيجة رضوخهم لأهواء أسماء دخلت على المشهد الثَّقافي.
يلقي السهيمي لوماً كبيراً على بعض المثقفين الذين لا همَّ لهم إلا التطلع إلى السلطة, ويرى في سلفهم الانتهازي, (أبا الطيب المتنبي) الذي خذلته السلطة فاتجه إلى الهجاء قدوة لهم. ولم يكتفِ بهذا فحسب بل يرى أن المثقف يتحول بمرور الزمن إلى العالم السياسي؛ لأنه عالم يستمد روحه من اعتبارات السلطة والمصلحة التي تتميز بقدرتها على تسيير دفة مجتمع كامل أو أمة. وعليه فمقولة المثقفين عن أنفسهم أنَّهم زُهَّاد في السُّلطة تدحضها الحقائق السابق, ويؤكدها صراعهم المستميت على تسنُّم المؤسسات الثقافية. وهو صراع يشي بمدى شغفهم بالسُّلطة الكبرى, السلطة السياسية؛ ولذا رأى أن من بين المثقفين العرب من سارع إلى تسنم السلطة ومنهم من انتظرها وبقي منتظراً, ومنهم من طمع ببعض المكاسب السُّلطوية, نابذاً كل القيم الثقافية.
يلقي الباحث لوماً كبيراً على المثقفين النُّخبة الذين أقاموا حالةً من القطيعة بينهم وبين هموم المجتمع, وقضاياه, فهو يرى أن على المثقف مهام جسيمة في تحويل بنية الواقع والمجتمع؛ لأن تخلِّيه عن دور النقد ينحدر به إلى شاعر قبيلة, فيرى من المطلوب وجود المثقف العربي الناقد, الذي يتسلح بالنقد والأبستمولوجيا على حساب الأيديولوجيا.
يرى الكاتب في النقد خياراً أمثل لتقويم المسار الحضاري للمجتمعات, والسبيل الأقوم لاستمرارية ترقيها. ومنه تولَّدَ نقدُ النَّقد الذي لم يقتصر مفهومه على النقد الأدبي, بل تمدَّد ليشملَ مجالات الثقافة والسياسية وعلم الاجتماع والتاريخ, لكنه يرى في الأدب ولاسيما الشعر- مرتكز الثقافات.
أما الفئة التي تقتات بالوعي وتسقطه, الميكافيلون, و(التراويريون) الذين يعيشون عصرهم الحاضر بكل تفاصيله, وقلوبهم معلقة بالماضي, بحسب ما تقتضيه المصلحة.
ولا يبتعد الديماغوجيون الذين يبحثون عن مخارج وآفاق, يتنفسون من خلالها, ويضعون عن طريقها حداً لهذا الانسداد الذي وقف حائلا دون تحقيقهم تلك الغايات.
** **
- د.غيثاء علي قادرة