إنّ من يعيش اليوم ممارسًا لتدريس اللغة العربيّة، أو الإشراف على تعليمها في مدارسنا، ومن يستغرق في البحث والتنقيب في أسباب ضعف أبنائنا اللغوي، وعزوفهم عن تعلّم اللغة، وحبّها، والانتماء الوجداني لها، يعلم جيدًا أنّ الأسباب تضافرت للوصول إلى هذه الحالة المستعصية.
إنّنا أمام مشكلة كبيرة، بل مرض عضال يعاني منه الجيل، ليس فقر الدم، أو ضعف فيتامين (د)، بل فقر النصوص، وضعف القدرة اللغويّة.
إنّني أعيش مع جيل عازف عن الحفظ، وللأسف مع عقول لا تؤمن بقيمة الحفظ.. ومناهج ومقرّرات استبعدت الحفظ، فذاب الدخل اللغوي، وتهاوت المدخلات، فكيف لنا بمخرجات؟
لم أقرأ في سيرة عالم من علمائنا الأوائل لم يحفظ القرآن، ثمّ الحديث، وبعض الشعر، والمتون. ثمّ نأتي اليوم في دراساتنا الحديثة، ونلغي قيمة النصّ اللغوي المحفوظ في معالجة الضعف اللغوي الحادث.
لماذا نحن أفضل بكثير من أبنائنا في اللغة العربيّة؟
لقد تهيّأت لنا الأسباب التي تساعد على إتقان اللغة، ولا أحجّر واسعًا، وأقول: إنّها كتب قواعد النحو والصرف والإملاء فحسب، فمن اعتمد على هذه فقط لم تجعل منه كاتبًا أو متحدثًا بارعًا.
إنّ معاشرة النصوص هي التي ترتقي بك إلى عليا الدرجات اللغويّة، وتجعل منك كاتبًا لامعًا، أو خطيبًا ساطعًا، أو هاويًا بارعًا، وإن كنت تعمل في مجال غير تدريس اللغة العربية، أو دراستها.. فكم من الأدباء والشعراء والخطباء ليسوا من طلّاب اللغة العربيّة!
إنّ معاشرة النصوص من آيات القرآن، والأحاديث الشريفة، وأشعار العرب، وأمثالها، وخطبها هي الدواء الناجع للضعف اللغويّ الذي نلمسه.
حين نتأمّل في حال أبنائنا نجدهم مشغولين بالتقنية، يمنعهم ذلك من القراءة الجادّة والحفظ، والاطلاع المثمر، ولا يجدون توجيهًا من الأسرة إلى استثمار التقنية فيما ينفعهم.
كم طالبًا أو طالبة في مدارسنا يعرف امرأ القيس، وعنترة، وأبا فراس الحمداني، وجرير والفرزدق، ويحفظ قصائد شوقي وحافظ والرصافي والعشماوي وطاهر زمخشري؟
ويقرأ للزيات والعقّاد والرافعي والمنفلوطي؟ ويستعذب الأدب بجمالياته، والشعر بنغماته؟
لقد حرمهم المقرّر حفظ النصوص والاستمتاع بها، وحرمتهم الأسرة رفقة الكتب وإدراك قيمتها، وحرمهم المعلّم تدريس اللغة بحبّ وانتماء لها.
وما كان منّي بعد طول تجريب في حقل التدريس اللغوي، والإشراف الفنيّ، والتعلّم الأكاديمي إلّا إرسال هذه الرسالة إلى الغيورين على لغتهم، الساعين لبقائها على ألسنة أبنائهم وطلّابهم بإتقان وإبداع:
- عليكم بملء فراغات حصصكم بالنصوص الجميلة.
- عليكم بملء طاولات بيوتكم بالكتب الثمينة.
- استمتعوا بالحفظ، وردّدوا مع أبنائكم الآيات والأحاديث والأشعار.
- احكوا لهم قصص الأدباء والشعراء، وعلّموهم قيمة الأدب.
- مارسوا تعليم اللغة بحبّ ومتعة، لا بتنفير ورهبة.
- لتكن القواعد جزءًا من النصوص، لا العكس.
النصوص ثروة لغوية عظيمة؛ فلنغتنم هذه الأيّام في إمداد أذهان أبنائنا بنصوص تقيهم فقر اللغة، وضعف الثقافة، وأعاصير اللحن، وضحالة الفكر.
** **
- خلود بنت عبد الله إبراهيم النازل