كان خريف 1427هـ /2006م استثنائيًا، بالنسبة لي، إذ جمعتني المناسبة في مجلس إدارة نادي جازان الأدبي بشخصيات لها وزنها الفاعل المؤثر في مجال الثقافة والأدب، عشتُ معهم سنوات، ملؤها سعة المعرفة ورحابة النقاش وتنوع الخبرات والتجارب إلى جانب الودّ والحب الذي يغمرنا كأسرة ثقافية واحدة.
أقول هذا، وأنا بصدد الحديث عن الصديق الحبيب الأستاذ أحمد بن إبراهيم الحربي الذي يمثل إحدى هاتيك القامات الثقافية، وقد أتيح لي معرفته عن عمق؛ مما جعلني ألامس الروح الجميلة الكامنة وراء تلك الشخصية بكينونتها المتفردة، وبصمتها الخاصة في إثراء مشهدنا الثقافي والإبداعي. فهو شاعرٌ ملهم، ومثقفٌ أصيل، وإنسان رائع بكل ما تعنيه أبجدية الروعة من دماثة خلق، وسماحة روح، ورحابة صدر، وتواضع معاملة، ووداعة إحساس، وصفاء طوية، وهو ما يلمسه كل من احتك بالحربي أو صادقه. على أن أُسّ ذلك كله ومركزيته تتحدد وبشكل جلي في خاصية (الحبّ) الذي يسكن وجدان شاعرنا. هذا الحب تجده لدى الحربي، مع معاناته وآلامه، في ابتسامته المشرقة، وهمسه الأليف، وحديثه الشجي، ونبراته الدافئة القادمة من أعماق إنسانيته الودودة الصادقة. وتلك هي -بحق- كيمياء السين وغرافيا الشخصية التي أحاطته بجملة من الأصدقاء الأوفياء والزملاء الأعزاء والخلان الأصفياء ممن عاشوا معه أو رافقوه وأحبوه وتقاسموا وإياه تجارب عديدة في الحياة والشعر والثقافة. فلا نستغرب، إذا، أن يدبجوا المقالات والشهادات في الاحتفاء بهذا الرمز الثقافي والإبداعي في مملكتنا الحبيبة.
أما أحمد الحربي (الإنسان) فتذهب بنا التداعيات بعيدا، هناك، حيث عمقُ الحياة وجوهرها الأصيل، فهو حالةٌ خاصة في إنسانيته الراقية، وتواضعه الجم، وأخلاقه المثالية، وقلبه الكبير الذي طالما فتكت به مشارط الأطباء وأنهكته غرف العمليات. إنه بارعٌ متفنن في كسب القلوب لا في كسرها، يفتح لك آفاقا عريضة في التسامح والتفاؤل والأمل والانفتاح والتعايش حتى في أصعب المواقف وأقسى الظروف، ولا أبالغ إن قلت بأنه مهما سطرت في هذا الشأن سيبقى نقطة ضوء يسيرة جدًا في مساحة واسعة من دفتر إنسانيته التي لا يمكن احتواؤها في مقال كهذا محدود الحيز والعدد. وهنا علي أن أشير إلى تلك الروح الصامدة الصلدة التي يتمتع بها الحربي تجاه متاعب الحياة، فلم يستسلم لشروخ المرض التي نهشت سنين عمره، ولم ييأس أمام مقاومة شبحه القاتم الذي اتخذ من جسده مأوى يستظل به، فألفيناه يتحداه رغم النزيف الجارح، ويشهر الأمل والتفاؤل والشعر مصدات معنوية يطارد به أوجاعه، وما عليك إلا أن تزوره لترى كيف يأسرك بهدوئه، ويغمرك بطمأنينته رغم جلبة الضجيج حوله. إنه -بحق- أحد أساتذة الحياة وروّاد الأمل وسادة الصمود في وجه الألم.
وحينما يأتي الحديث عن الثقافة يقابلنا الحربي في رحلة تجاوزت نصف قرن من العطاء المتدفق والإبداع المتواصل، مهووسًا بالقراءة الكثيفة، مدمنًا على الاطلاع الحر، غير متحيز لفن معرفي معيّن، مهرولاً رغم مرضه ومعاناته نحو معارض الكتب في الداخل والخارج؛ لأن الثقافة احتلت مكانة عميقة في وجدانه وفكره واهتماماته، فلا يني مبادرًا في حضور المناسبات الثقافية، مشاركا في فعالياتها المتعددة، ناهيك عن تشجيعه للمواهب الشبابية الواعدة، كل ذلك في رؤية متوازنة وطرح معتدل رغم التجاذبات والانعطافات التي لا يخلو منها أي مسار ثقافي معاصر.
على أن هواه الخالص يبقى منصرفا نحو عشيقته (القصيدة)، فلا مسافة بين أحمد والشعر. يحضر فيصنع الدهشة بكلمته الشاعرة، وعاطفته الجياشة، وصوره الموحية وموسيقاه المتناغمة التي يتردد صداها في أرجاء المكان؛ فتخترق ذواتنا وتعْبر بنا نحو فضاءات التصادى مع جماليات الإصغاء والمتعة والابتهاج.
لم يكن الحربي ذات يوم صاحب نظرية جديدة بل كان صاحب رؤية شعرية ومشروع إبداعي، دأب على الاشتغال عليه واستحكام قيمه الفنية والجمالية؛ ليرسم عبر دواوينه الاثني عشر استعارات الوجود، وأسرار الذات، وغياهب الكينونة واستيهاماتها بشغف الشعرية الأصيلة والمتخيل الرحب والدلالة العميقة، فنسعد به شاعرا فذا، أخلص للقصيدة واحترق بجمرها، ومنحها إحساساته الجميلة ومشاعره الفياضة في إيقاعات شجية مسكونة بقلقه، هواجسه، آلامه، أسئلته، رموزه وإشاراته الدالة على أناه الشعرية المشدودة نحو عوالم الحب والجمال التي دشنها منذ فترة قريبة بمدونته الباذخة (الأعمال الشعرية الكاملة).
ليبق الصديق العزيز الأستاذ أحمد الحربي منارة ثقافية، ويظل شاعرًا رائدًا في مسيرة الأدب في مملكتنا الغالية وعالمنا العربي أجمع، نفخر به مبدعًا واعيا لرسالته الإنسانية والجمالية التي منحها موهبته وتجربته ومبادراته وإنجازاته الفنية المتميزة.
** **
- د. مجدي الخواجي